أهمية اردوغان في استراتيجية مركز القرار العالمي

1٬633

لم يكن ظهور اردوغان على الساحة السياسية التركية صدفة كظهور أية شخصية أخرى ساعدته الظروف في تبوء مكانة داخل مجتمعها، بل كان نتيجة حاجة مركز القرار العالمي الذي استطاع ان يعيد سيطرته على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانقلاب (مناهضي) الامبريالية على أنفسهم وفتح أبواب دولهم على مصراعيها امام الشركات والاستثمارات الرأسمالية. بدأت المذكورة بشكل علني وواضح مع بروسترايكا واستلام يلتسين للسلطة في الاتحاد السوفيتي من خلال انقلاب شكلي مفضوح الأهداف ليصير الى تفكيك الاتحاد وهرولة الدول (المستقلة) للاحتماء بالمظلة الرأسمالية وإزالة جدار برلين وتفكيك يوغوسلافيا ومن ثم انهاء الحكومات اليسارية في أمريكا اللاتينية واسيا وافريقيا وبذلك تم تفكيك النظام المنافس والمعرقل لظهور الرأسمالية المتوحشة التي ظهرت كقوة تدخل سريع يقضي على كل امل انساني بسرعة لم يسبق لها مثل.
وجدير بالذكر بان التحضيرات لوضع خطط القضاء على النظام المنافس المذكور
بدء مع ظهور النظام نفسه لانه ضيق الأسواق على الشركات التي بدأت تتحول الى عابرة للحدود للحصول الى الطاقة ومواد الخام وخاصة لتصنيع الحديد والنسيج.
اتجه المركز الى اذكاء الميول الطائفية والمذهبية الدينية وبدأت أجهزتها المختصة العمل في المستعمرات لتشكيل تنظيمات عملية تنفذ مخططاتها بعد الانسحاب.
بعد تفتيت الإمبراطورية العثمانية وظهور الدول المختلفة في المنطقة وكذلك بعد انتشار الحكومات الاشتراكية في شرقي أوروبا دعمت وعملت القوى الرأسمالية على تشكيل تنظيم سياسي تحت غطاء ديني ليكون احد اهم ركائز سيطرتها على شعوب المنطقة والتحكم بهم من خلال تشكيل تنظيم الاخوان المسلمين من قبل الاستخبارات البريطانية ، هذا التنظيم الذي وضع على عاتقه وحسب أهدافه الاستلاء على الحكم في مصر بداية والانتشار من بعدها ولكن الظروف السياسية والاجتماعية للبلد لم تسمح لهم وقد حاول جمال عبد الناصر تقزيمهم وبتر اجنحتهم في فترة الخمسينيات الا انه بقي تنظيما نشطا واستطاع ان يشكل فروع له في العديد من دول العالم ومنها تركيا التي كانت قبل أعوام العشرينيات دولة ذو نظام إسلامي تحدد سياساتها وقوانينها من خلال الشريعة الإسلامية ،مع استلاء مصطفى كمال اتاتورك على السلطة والاعلان عن النظام الجمهوري بدا يحكم الدولة من خلال دستور جديد بعيد عن الشريعة ،مما أدى الى ظهور حركات قومية ظاهريا وإسلامية الطابع في سياساتها وانظمتها ، دون ان تكون تابعة لتنظيم الاخوان العالمي والذي اخذ من القاهرة ولندن ومن ثم بعد تشكيل دويلة قطر ، الدوحة مقرات لأعمالها .ومن المدن الثلاثة بدأ التنظيم يمد جذوره نحو بقية الدول وخاصة الإسلامية منها وتركيا كانت احدى تلك الدول بالرغم من الرقابة الصارمة للدولة على التحركات الإسلامية خوفا من الانقلابات والعودة الى نظام السلطنة التي كان يدعوا اليها العديد من التنظيمات السرية والطرق الصوفية المنتشرة لكن اتاتورك اصدر العديد من القوانين التي نصت على انهاء تلك الحلقات والتنظيمات ، ليبقى مؤيدو العودة لعهد السلطنة مجموعات انتشرت ضمن الأحزاب التي تشكلت وخاصة القوموية منها ، الى ان ظهر نجم الدين اربقان واقتحم الساحة السياسية التركية العلنية واعلن عن تأسيس حزب الرفاه – فروع تنظيم الاخوان المسلمين التركي -الذي ضم مجموعة من الدعاة وشيوخ الدين وكان رجب طيب اردوغان احد القيادات الشابة للحركة ذو كاريزما تساعده لتبوء مكانة داخل التنظيم .
بدأ اردوغان حياته السياسية كواعظ يخطب في الجوامع والاجتماعات السرية منها والعلنية واستطاع خلال تلك الفترة توطيد علاقاته مع القيادات الاخوانية في العالم وخاصة مركز الجذب الجهادي -أفغانستان – حيث غلبدين حكمتيار القائد الاخواني الذي استطاع ان يكون احد الأطراف المهمة في الحرب الاهلية الأفغانية الى جانب تنظيم القاعدة المؤسس حديثا ليستقطب اكثر الإسلاميين راديكالية للانضمام الى اتون الحرب الدائرة هناك وبذلك ظهر تنظيمان سياسيان علنيان يمثلان المذهب السني في تشريعاتهما ، وبالرغم من الخلافات العميقة بينهما الا انهما يمتلكان الاستراتيجية نفسها وهو الاستلاء على السلطات في الدول المختلفة وفرض الشريعة الإسلامية فيها. ولم يخفي اردوغان منذ ذاك نهاية الثمانينيات وما بعد ميوله للعودة بتركيا الى عهد الخلافة -السلطنة- ودعا في العديد من خطبه الى ذلك لا بل دعا الى الجهاد في سبيل تحقيق اهداف المسلمين واعتقل بسبب ذلك ليسجن خمسة واعوام ولكن التحضيرات كانت جارية لتعزيز مكانته وحتى هو بالسجن ليكون الزعيم الإسلامي الأكثر شعبية في تركيا حتى في فترة وجوده بالسجن وسبب تلك التحضيرات باعتقادنا هو ولائه المطلق للتنظيم -الاخوان المسلمين – ومحاولاته الجدية في سبيل انهاء فترة العلمانية في تركيا الفترة التي كانت اغلبية الشركات والمؤسسات والمعامل ملك للدولة ولهذا كان مركز القرار العالمي بحاجة الى تفكيك سيطرة الدولة على قطاع الاعمال وامتلاكه لكاريزما قومودينية تمكنه من تحقيق اهداف الشركات العابرة للحدود وفعلا بعد فشل تجربة اربقان تبوء اردوغان المركز الأول في سلم الزعامة الإسلامية بتركيا واسس مع رفاقه من حزب الرفاه مع بعض الشخصيات الليبرالية التي ضحك عليهم بتبنيه لها ظاهريا ليستطيع في فترة قصيرة بدعم من مركز القرار العالمي الوصول الى سدة الحكم في تركيا العلمانية وبدأ ببيع القطاع العام وخصخصة الشركات والمؤسسات وقطاع الطاقة والمواصلات وبدأ بالانقلاب على من دعمه من الشخصيات والمجموعات الغير اخوانية كي يستطيع منها الليبراليين وحركة فتح الله كولن -حركة النور الإسلامية -وبدأ بالقضاء على الأفكار الكمالية بالتدريج وخاصة داخل مؤسسة الجيش التي كانت بمثابة حامي الكمالية ونظريتها الوطنية وخلال بدأت من 2002 وحتى 2016 استطاع ان ينهي هيمنة الجيش وان يحوله الى تابع امين لشخصه وبذلك اصبح اردوغان مطلق الصلاحيات في تركيا ، وربط الاقتصاد التركي بالبنوك والشركات العالمية وهو ما كان مركز القرار العالمي يريد ان تتحول تركيا له فبعد ان كانت دولة يهيمن عليها العسكر ويعتمد في تطور اقتصاده على قروض البنك والصندوق الدوليين مع الأولوية لقطاع العام وتحكم الدولة بالاقتصاد جعل اردوغان من تركيا سوقا مفتوحة للاستثمارات العالمية وبدأ من خلال تهافت الشركات ان يعمل على السيطرة الاقتصادية على دول الجوار وغزت البضائع المنتجة في تركيا أسواق دول المنطقة كلها من بلدان الشام والعراق والخليج والشمال الافريقي مما عزز لظهور اردوغان كقائد إسلامي ناجح يلفت الأنظار وكان لخطاباته وبهلوانياته المعادية لإسرائيل والمدافعة عن الإسلام الدور الأساسي في ان يصبح امل الإسلاميين في قيادتهم ضد التجبر العالمي -وهو صنيعة ذلك التجبر – وضد إسرائيل وهو الذي تطورت العلاقات الاقتصادية والعسكرية في عهد مع إسرائيل الى مستوى لم يسبق له مثيل في تاريخ العلاقات التركية الإسرائيلية .
كان من الممكن ان تؤدي الازمة الاقتصادية الصامتة والتي بدأت بالظهور العلني في منتصف العام 1015 والركود الذي اصاب الاقتصادي التركي و تهاوي سعر الليرة ، وايقاف الالاف من المستثمرين اعمالهم , الى انهيار الاقتصادي التركي وبالتالي سقوط الفاشية الحاكمة ، لكن المجموعة المصغرة بقيادة جاريد كوشنر والتي تضم اعضاء من وزارة الخزانة والخارجية والدفاع ومعهم اللوبي الداعم لاستمرارية نظام اردوغان في أوروبا وإسرائيل وحتى روسيا ، تدخلت بسرعة لوقف ذلك التدهور من خلال ارسال تطمينات للخارج والدعم العلني من قبل ترامب ومركل لأردوغان وابقاء تركيا في حقل الشريك التجاري المفضل وعدم مطالبة البنوك الاوربية بديونها المستحقة ومحاولة تلك البنوك مساعدة الشركات التركية المدانة من خلال تمديد المهل وتسهيل الحصول على قروض ترميمية وقد أدى جعل بوتين من اردوغان شريكا أساسيا في سوريا وشريكا تجاريا على كافة الأصعدة الى خلق نوع من الاستقرار وايقاف تهاوي الليرة وإزالة المخاوف بانهيار محتمل للاقتصاد التركي ، وهذا الامر ادى الى ان تفكر شركات عالمية كبرى كشركة فولكس فاكن الالمانية العملاقة بفتح فرع لها في تركيا بعد ان كانت قد لغت الفكرة قبل عدة شهور .
من الجانب الآخر أدت التهديدات الامريكية المتتالية منذ سنتين لتركيا الى نتائج عكسية وهو ما كانت تعلمه المجموعة الامريكية المصغرة التي تريد تركيا قوية اسلامية متمردة على الغرب لتكسب الجماهير الغفيرة من بسطاء المسلمين لان تلك المجموعة نفسها تعلم مدى كره المسلمين لأمريكا واسرائيل وهو ما يستثمرونه بشكل جذاب وفعال، قد ظهر اردوغان في عدة مواقف اهان فيها الرئيس الإسرائيلي وحتى بعض رؤساء الغرب دون ان يردعه أحد.
اظهر اردوغان نواياه بعد اندلاع المقتلة السورية ان يكون ممثل الاسلام السني السياسي وقائدها الديني والسياسي دون منازع وقد ساعده في الترويج لذلك الهدف المرسوم له من قبل مركز القرار العالمي في نيويورك ولندن وترك له كامل حرية التحرك على كافة الأصعدة من خلال تعزيز العلاقات مع إيران بالتوازي مع زيادة العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل والتي يدعي معادته لها ولتعزيز مكانته أكثر توقفت الجهات الاقتصادية العالمية بالحديث عن الاقتصاد التركي ولم تعد البنوك العالمية تتحدث عن ديونها على تركيا. الوضع الاقتصادي أصبح تحت السيطرة ولا خوف على مستقبله في المرحلة الحالية. وما ترديد البعض وخاصة الاعلام العربي عن الاقتصاد التركي وكأنه منهار ما هو الا تكرار لأخبار ما قبل سنة من الآن. هناك مسألة مهمة وهو دليل دامغ على تدخل تلك المجموعة وكذلك ترامب نفسه لإنقاذ الاقتصاد التركي وهو ن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لم يصدرا بيانات عن حاجة تركيا للقروض او التقشف في السنة الاخيرة وهو ما يعني بان الثالوث الذي يملك تلك البنوك لا يريد لحكومة اردوغان ان تقع تحت قروضها، وهو بالأساس ينفذ مخططاتها دون الحاجة لفرضها عليه عن طريق الديون.
وجدير بالذكر ان تركيا كانت ترزح تحت ديون البنك والصندوق النقد الدوليين بعد الحرب العالمية الثانية وحتى قبل ٢٠٠٩ ، كان مركز القرار العالمي يتعامل مع مؤسسة الجيش ويجعل الحكومات رهينة القروض حتى تبقى تحت السيطرة واضعة نصب اعينها العلاقات القوية التي كانت تربط حكومات الجمهورية التركية المتعاقبة قبل الحرب العالمية الثانية مع الاتحاد السوفيتي حينها وهذا ما خلق شكوك دائمة لدى المركز المذكور من اية حكومة تستلم الحكم في تركيا ولهذا جعلت من الجيش العصى الذي تضرب به رأس الحكومات وتسقطها بانقلابات عسكرية حتى وجدوا ضالتهم في اردوغان المنفذ الصادق لمتطلبات المركز ولهذا بدأت امريكا والغرب بشكل عام غض الطرف عن الجيش والتعامل مع الحكومة ورئيسها كأهم ضامن والموثوق في تمثيل مصالحهم في المنطقة.
حاول الغرب ان يخلق من نجم الدين اربقان حليفا موثوقا قبل اردوغان لكنه لم يستطع ان يدمج بين الطورانية التي تمثلها الاتاتوركية وبين نهجه الديني مما ادى الى عزله وبقاء الحيش كقوة موثوقة وحيدة من قبلهم الى ان ظهر أردوغان كخطيب ديني يجمع بين الطورانية الاتاتوركية والاسلام السياسي وهو ما ادى الى وقوف الغرب معه ودعمه ،بعد ان اثبت للمركز بانه قادر على مزج النهجين وتمثيلهما في تركيا .وبذلك انتهى دور المؤسسة العسكرية كقوة موازية للحكومة وبدأ الغرب يعتمد كليا على اردوغان لتمثيل رؤاها ومصالحها ويقود حركة الإسلام السياسي في المنطقة وهو ما لم ينجح اية شخصية إسلامية في تمثيلها كما اردوغان .
حسين عمر
19/12/2019
نشر في مجلة الشرق الأوسط الديمقراطي
عدد 47

#حزب_سوريا_المستقبل

#مقال_رأي