عبد الوهاب بدرخان يكتب: فتنة أو حرب لإنقاذ إيران ونفوذها

959

أهم ما حققته الانتفاضتان في العراق ولبنان، أنهما تمضيان في تفكيك الهيمنة الإيرانية على العقول والنفوس، وتجاوزان حاجز الخوف من الإرهاب الإيراني. قمع نظام طهران انتفاضة شعبه لكن لديه الكثير مما يقلقه في الداخل كما في مستعمراته.

فرضت السلطات الإيرانية ستاراً حديداً، على النمط السوفياتي السابق، طوال الفترة الزمنية التي طلبتها أجهزة الأمن لتتمكّن من القتل والتنكيل والاعتقال بعيداً عن شهود وكاميرات، غير أن الجرائم وُثّقت وأثبتت أن هذا النظام الذي يديره رجل دين لا يختلف عن أي نظام يتزعمه عسكري سفّاح أو مدنيٌّ مختلٌّ.

على مدى أيام التعتيم المطلق تحوّلت الشوارع في مئة مدينة إيرانية مسارح لإعدامات ميدانية ومقتلات مبرمجة أسقطت مئات الضحايا، ومطاردات مستهدفة تركت آلاف المصابين، واعتقالات حصدت الآلاف.

ولو لم يؤدِّ انقطاع الانترنت الى خسائر هائلة لاقتصاد منهك أصلاً لاستمرّ إغلاقها. وفيما كانت الأجهزة تمارس أبشع أنواع التعذيب للمعتقلين، سارع الرئيس، “الإصلاحي – المعتدل”، حسن روحاني الى اعلان التغلب على الاضطرابات، وحصر ما حصل بـ “مخططات خارجية” لنشر الفوضى في إيران وبأدوار لأجهزة استخبارية غربية.

كان المرشد علي خامنئي سبقه بالقول إن الاحتجاجات ليست “حركة شعبية” بل “مسألة أمنية تمّ التعامل معها – أي قمعها – بنجاح”. هل يعني ذلك أنه يعتبر ضمناً أن كلّاً من العراق ولبنان يشهدان “حركة شعبية”؟
تمكّن النظام من ضرب انتفاضة الشعب الإيراني بالحديد والنار، ولا دقّة في أعداد القتلى والجرحى والمعتقلين فأعلاها يبقى أدنى من الواقع.

برهن النظام تأهّبه بمقدار ما استخدم خبراته الدموية لكنه راهن على أن يثبط قمعه الوحشي لانتفاضتَي 2009 و2017 – 2018 عزيمة الإيرانيين الذين خرجوا الى الشوارع موقنين بأنهم سيُواجَهون آلة القتل، التي أشركت فيها هذه المرّة القوات المسلّحة و”الحرس الثوري”، بالإضافة الى “الباسيج”.

كانت التُهم جاهزة، فالذين تظاهروا مطالبين بـ “الموت للدكتاتور” و”سقوط المرشد” وهاتفين “لا غزّة ولا لبنان كلّنا فداء إيران” هم من معارضة المنفى (“مجاهدي خلق” وأنصار نظام الشاه) أو من عملاء اميركا والسعودية وإسرائيل.
هكذا، لم يبذل الملالي عناءً للعثور على الذرائع التي تريحهم، إنْ هي إلا “مؤامرة أميركية” أخرى يهزمونها، فإلى التمرين التالي.

لكن، إذا كان هؤلاء المعارضون، المنفيّون، قادرين على تحريك أكثر من مئة مدينة وعلى هزّ فرائص الملالي، فهذا يعني في الحدّ الأدنى أن نفوذ “المعارضة” أكبر من أن يُحتوى، غير أن النظام يعلم أن اتهاماته ملفّقة وأن لديه – في الداخل – ما يديم قلقه. ذهب فوراً وسريعاً الى سفك الدماء ليُرغم مواطنيه على نسيان رفع أسعار البنزين، لكن هذه تواصل سرقة التومانات القليلة من جيوبهم وتراكم الحنق والنقمة والحقد ذخيرةً للانفجار التالي.
لدى النظام ما يؤرقه أيضاً، في الخارج، في ما يسميها مناطق نفوذه، فكلّها مشتعلة. ومثلما أن المكابرة وحدها لا تكفي لتغطية أزمته الداخلية وتزيّن له أي تراجع على أنه “مقاومة” و”ممانعة”، كذلك لا تنفع رغبات الوليّ الفقيه وحدها في معالجة أزمات الحلفاء.

أياً تكن الظروف فلا شيء يطمئنه الى مستقبل التمدّد الإيراني في الإقليم، ومهما كان الاختراق الأميركي فإنه لا يستطيع تصنيع الانتفاضتين العراقية واللبنانية على هذا النحو من العمق والثبات. لكن الملالي يفضلون تصديق الكذبة التي ينسجونها وتساعدهم على الاستمرار في الإنكار: ليس هناك شعب ثائر بل هناك “الشيطان الأكبر” يدير مؤامرة ضد “الجمهورية الإسلامية”. لو كانت “جمهورية” حقّاً لما سعت الى التخريب لتصطنع “امبراطورية”، ولو كانت “إسلامية” حقاً لما جهدت لإنتاج هذا النموذج السيّء من الإسلام فيما تقدّم نفسها نقيضاً تصحيحياً لنماذج أخرى سيئة.
يكمن المأزق الحالي في أن الوليّ الفقيه كان تبلّغ أو أُقتنع بأن العراقيين واللبنانيين أصبحوا رعاياه ومواليه، بدليل تقارير جنرالاته التي تقول أن حسن نصرالله يحكم لبنان و”أبو مهدي المهندس” وفالح الفياض يحكمان العراق – ولو أنهما لا يضاهيان نوري المالكي، ثم أن عبدالملك الحوثي يحكم اليمن كما يحكم بشار الأسد سورية، فهؤلاء كلّهم “أولاد الولاية” وأزلامها، لا يحيدون عن “خط المقاومة” حتى لو اضطرّوا لحرق بلدانهم، وقد فعلوا.

نعم، استثمرت إيران الكثير في الشحن المذهبي والأدلجة، وفي التسليح والعسكرة، لكن ذكاءها خانها حين تجاهلت معاناة شعبها والشعوب التي تفاخر باستعمارها. أي تحليل سياسي، بمنظار تاريخي اجتماعي، سيوصل المخططين في إيران الى أن غطرسة القوة أعمت بصائرهم وأنهم اجتهدوا لتركيب أرجل لـ “الكذبة” ودفعها الى السير لبعض الوقت لكنها لن تدوم إلا بإدامة الفتن. لذلك فالمطلوب فتنة ما، حربٌ ما، لـ “إنقاذ” النظام الإيراني.
قد يوحي أتباع إيران لمواطنيهم بكل شيء إلا بالثقة، يتساوى في ذلك مَن هم من طائفتهم أو من سواها. في اليوم الثالث بعد اندلاع انتفاضة لبنان بادر الأمين العام لـ “حزب الله” الى خطاب الاعتداء عليها، هدّدها بإنزال جحافله الى الشارع وقد فعل لكنه لم ينجح في ترهيب المتظاهرين بل ضاعف أعدادهم، أنذرها بإشعال “حرب أهلية” وقد حاول فعلاً حين أطلق رعاعه من الشياح الشيعية الى عين الرمانة المسيحية لإحياء خط تماسٍ سابق، ولا يزال يناور بالسياسة للحفاظ على “نظامه” لكنه وحليفه “التيار العوني” تبادلا حرق بعضهما بعضاً. فما الفائدة من نظام بات يعرف أنه سقط في الشارع بعدما أغرق البلد في أزمة اقتصادية غير مسبوقة…
ومنذ اليوم الأول للتظاهر في العراق أدرك “الحشد الشعبي” أنه وراعيته إيران أمام وضع يستوجب إفلات “نخبة” القتلة والقناصة في صفوفه لخنق أي انتفاضة في مهدها.

قتلوا بضع مئات ولا يزالون يقتلون، أحدثوا إعاقات دائمة لأكثر من ثلاثة آلاف، تسببوا بجروح بالغة لما يفوق اثنتي عشر شخصاً، خطفوا المسعفين والناشطين. لا يستبعد قاسم سليماني وأزلامه “الحشديون” أي سيناريو، بما في ذلك المجازر، لكن توسّع الانتفاضة وانتشارها وثباتها كانت دليلاً ساطعاً الى فشلهم، فهُم أيضاً سقطوا في الشارع.

حتى في سورية تكثر المؤشرات الى “الكذبة” إياها في أكثر من مجال، كذلك في اليمن حيث يواجه الحوثيون واقعاً دولياً واقليمياً يريد نهاية قريبة للحرب فإمّا أن يحصلوا على موقع في الحل السياسي أو يخضعوا لمشيئة ايران وترتدّ الحرب عليهم.
حرص أعداء الانتفاضة في لبنان على الهتاف “شيعة… شيعة” لكنه وقع في آذان مَن لا يعنيهم بل ردّوا عليه بالنشيد الوطني.

لم يستطع أعداء الانتفاضة في العراق إطلاق صيحة “شيعة… شيعة” ضد المعتصمين في الساحات فهؤلاء من الشيعة ويهتفون “بالروح بالدم نفديك يا عراق”. ولم يستخدم القتلة في إيران تلك الصيحة لتذكير المتظاهرين بانتمائهم المذهبي فهؤلاء من الشيعة وكانوا يهتفون لتذكير الملالي بالانتماء الى إيران. هذه الفوارق البديهية، بل السطحية، تبدو كافية لإظهار المأزق بعمقه وكل أبعاده.

#حزب_سوريا_المستقبل
#مقالات
مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر كُتَّابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.