إذا قيَّمنا التاريخ بالشكل الصحيح حينها نصل إلى أن الشرق الأوسط هو مهد الحضارات الإنسانية، لأن الشيء الذي تم انكاره ضمن العلوم الاجتماعية بحد ذاته هو تاريخ الإنسانية، فخير مثال على ذلك هو عدم قدرة جميع الحركات التحررية والاشتراكية المشيدة في دول أوربا والعالم النجاة من خدمة مصالح النظام الرأسمالي، وذلك يعود الى عدم صحة تحليلهم لتاريخ الإنسانية، وليس لعدم سعي ومطالبة الشخصيات الوطنية التي قامت بتلك الثورات والتي في حينها نادت بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان التي تعتبر من أسمى المطالب والحقوق الديمقراطية وأقدسها.
أما اليوم عندما نحلل وضعنا الراهن المعاش نجد بأن الدول القومية سعت إلى تطبيق السياسة القانونية التي تخدم وجودها، وتفرض هيمنتها على المجتمع والمرأة وتعمل على خلق التفرقة والعنصرية والصراعات، وعلى ذلك النهج شهدت البشرية العديد والكثير من الحروب والمجازر والابادات بحق الإنسانية في عهدي النظام الرأسمالي والدولة القومية التي عملت بكل مساعيها على تفكيك النسيج المجتمعي، وانتهاك كافة الحريات والحقوق الإنسانية عبر محاربة القوميات وخلق الفتنة بين الشعوب المتعايشة مع بعضها البعض منذ الآلاف السنين, وخير دليل وبرهان على ذلك سياسات العثمانيون الذين تركوا وراءهم حقبة سوداء بعد فترة حكمهم في سوريا، والتي اتسمت بالإبادة الدينية، العرقية، الثقافية وبحجة تحقيق الاستقرار حصلت العديد من المذابح التي لا تزال محفورة في ذاكرة تاريخ سوريا، ومنها ماحدث من المجازر التي توسعت لتشمل كل المسيحيين وعلى رأسهم السريان والأرمن ومذابحهم المعروفة، وأيضاً وما يفعله أردوغان اليوم بإصراره على إعادة الهيمنة العثمانية ليست إلا رغبة لإحياء صيتها السيء وممارساتها بشكل عملي، لا بل يقوم بأفعال أسوأ منها، حيث في إطار المقارنة التاريخية ما فعلته داعش يتطابق تماماً مع ممارسات العثمانيين بشكل علمي وعملي وكذلك ممارسات أردوغان تتطابق مع الاثنين تماماً , فدولة الاحتلال التركي منذ بداية الأزمة في سوريا, تسعى بكل السبل لتكريس واقع الفوضى واللا استقرار, وكذلك تعمل في سبيل إعاقة وعرقلة المساعي نحو تحقيق الحل الديمقراطي، كما إنها تخالف كل القواعد وتتدخل لصالح أجنداتها في كل الأمور، ومن أبرز الأسباب الحقيقية التي تعقّد الأزمة في سوريا وأهم الجوانب التي حرّفت المعنى الحقيقي للثورة في سوريا هي المعارضة (كما تسمي نفسها) والتي تشكل بكامل تفاصيلها هيكلاً أجوفاً لا معنى له ولا قيمة، حيث منذ بداية الحراك في سوريا ما تطرحه المعارضة ليس فيه فارق عما يريده النظام السوري فمنظور المعارضة لا يختلف عن النظام ولا سيما أن الأشخاص الذين يسمون أنفسهم بالمعارضة هم جزء من مشروع الحرب من أجل السلطة, ويريدون استبدال الحكم في سوريا بنمط يوازي التغيير الشكلي في البلاد، لكن ضمنياً يعملون على تطوير نموذج الهيمنة الأحادي, عبر ممارسات خطيرة ومنها انخراطهم ودعمهم لمشروع دولة الاحتلال التركي في التطهير العرقي بسوريا, لا بل كانوا العماد فيه, حيث هذا المشروع إبادي ويغير من معالم سوريا وطمس هوية الشعب السوري.
وعلى مدى السنوات الأخيرة، شنت تركيا عمليات عسكرية داخل أراضي سورية بمُعدل عملية واحدة كُل عامين فكانت الأولى درع الفرات في عام 2016 التي غزت فيها الدبابات التركية الأراضي السورية لأول مرة من عام 2011، فعملية غُصن الزيتون في 2018 التي هدفت إلى إنهاء وجود قوات سوريا الديمقراطية في مناطق الحدود، والتي انتهت باحتلال تركيا لعدد من المُدن في الشمال السوري، ثم عملية درع الربيع في 2020 التي هدفت لوقف تقدُم الجيش السوري في مُحافظة إدلب وانتهت نهاية فاشلة وقبل أردوغان الشروط الروسية لوقف القتال في القمة التي عُقدت بينهما، وأغلب الفصائل والتنظيمات العسكرية في سوريا هي خليط من الجماعات الدينية المتطرفة والحركات الإرهابية, وفقاً للقرارات الدولية وبعضها يتكون من مقاتلين مرتزقة، وسرعان ما فتحت أنقرة أبوابها لفصائل المعارضة السورية لممارسة أنشطتها وتنظيم اجتماعاتها ووفرت لهم الدعم السياسي والإعلامي، وتصاعد التأييد التركي ليمتد إلى التزويد بالسلاح والخدمات اللوجستية، وتوفير الممر الآمن عبر الحدود للانتقال إلى داخل سوريا والخروج منها، وامتد الأمر إلى دعم التنظيمات المُتطرفة الإرهابية كجبهة النصرة وداعش، وصولاً إلى انتهاك صارخ للأراضي السورية بشكل صريح وغزو الجيش التركي مناطقها أكثر من مرة، فقامت باحتلال عشرات المُدن والبلدات أهمها عفرين، وجرابلس، وأعزاز، وجنديرس، وراجو، ادلب , وشيخ الحديد. ومؤخرا رأس العين وتل أبيض وفي الوقت ذاته استخدم الإعلام التركي وسائل عثمانية قديمة لتبرير التدخل العسكري والاحتلال التركي لهذه المُدن.
ولم تقتصر السيطرة التركية على حُكم هذه المناطق بل شملت عملية “تتريك” تضمنت تغيير الكتب المدرسية وتدريس بعض المواد باللغة التركية، وإنشاء مدارس تقوم بالتدريس باللغة التركية فقط، وتُديرُ وزارة الصحة التركية المُستشفيات في هذه المُدن وترفع على مبانيها العلم التركي وليس السوري.
وتغيير لافتات الطرق والميادين والمؤسسات العامة وأسماء الشوارع التي باتت تحمل أسماء تركية، وإضافة اللغة التركية إلى جوار اللغة العربية، فعلى سبيل المثال، ففي مدينة أعزاز، التي تقع شمال غرب مدينة حلب، كُتب على جدار مبنى المجلس المحلي للمدينة الذي عينته السُلطات التركية عبارة “التآخي ليس له حدود” باللغتين العربية والتركية، وظهر إلى جانبها علم الجمهورية التركية وراية المعارضة السورية، وأطلق المجلس اسم “الأمة العثمانية” على الحديقة العامة في المدينة بعد ترميمها.
ويدُل هذا على أن تركيا تهدف إلى تغيير هُوية سُكان هذه المناطق واستبدالهم بآخرين وتغيير هوية المكان وإكسابه طابعاً تركي, والهدف هُو خلق وإيجاد نطاقات سُكانية واجتماعية عربية خاضعة لتُركيا في مناطق الحدود , وضمان أن يستمر هذا النفوذ حتى بعد انسحاب الوجود العسكري التركي المُباشر من الأراضي السورية، وذلك من خلال النُخب التابعة والعميلة, إلى جانب ذلك إن النساء في المناطق المحتلة تعيش في ظلام ومعاناة جراء انتهاكات الاحتلال التركي الذي لا يختلف عمّا فعله مرتزقة داعش بحق النّساء من خطف واغتصاب وقتل وضغوط نفسية، والتطاول والاعتداء على النّساء , وأيضاً تهدف تُركيا في محافظة إدلب إلى جعلها منطقة خاضعة للفصائل والتنظيمات السياسية والعسكرية المدعومة منها التي تسير في فلكها , فكثير ممن يسكنون مُحافظة إدلب الآن هُم ليسوا من أبنائها ولكنهم من أعضاء تلك التنظيمات والفصائل من كُل أنحاء سوريا الذين تم نقلهم إلى إدلب في السنوات الأخيرة, وتهدف تُركيا إلى استمرار وضع هذه الجماعات في إدلب حتى بعد تسوية الصراع ومنع الحكومة السورية من ممارسة حقها في إدارة المحافظة كونها جزءا من إقليم الدولة السورية , وهذه هي سياسة الأمن القومي التركي في سوريا وهي سياسة توسعية مُخالفة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
وإن معظم القوانين والاتفاقيات الدولية ومواثيق حقوق الإنسان التي صدرت عن الأمم المتحدة بعد الحروب والنزاعات التي أودت بحياة الملايين من البشر، عالجت الواقع المرير الذي عاشته شعوب العالم وجاءت لتنهي حقبة من الظلم والاستبداد والعبودية, ولهذا لقد منح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حق الحياة لكل شخص, وحظر استباحة الدماء مهما كانت الأسباب, وصان الملكية الشخصية، واعتبر الأسرة كياناً مقدساً، ومنح الآباء والأمهات الحق في التربية وصون أطفالهم كما يشاؤون, ومنح الإنسان الحق في الدفاع عن النفس في مواجهة التهديدات الخارجية, والحق في محاكمة عادلة، وكان للنساء والأطفال النصيب الأكبر من الحقوق من هذه الاتفاقيات والمواثيق حيث اعتمدت الأمم المتحدة اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، والقرار 1325 لعام 2000 المرأة والأمن والسلام, إلا أننا نجد أن جميعها ضربت بعرض الحائط, فقد انتهكت وسلبت حياة الناس, ونهبت ممتلكاتهم وسرقت أموالهم، وتلاعبت بمصائرهم وأهانت كرامتهم, واعتقلت واغتصبت نسائهم وحرمت أطفالهم من العيش في كنف أسرة آمنة، ومنعتهم من التعليم، وهجرتهم قسراً من منازلهم ومزارعهم وأراضيهم ليعيشوا مشردين دون مأوى في العراء أو في مخيمات اللجوء، حيث الافتقار إلى أدنى مستويات العيش الكريم بعد أن كان أهالي الشمال والشمال الشرقي من سوريا، وخصوصاً في عفرين ورأس العين وتل أبيض, ينعمون بالسلام والأمان ويعيشون بكرامة ضمن بيئة طبيعية في منازلهم ومزارعهم ويعلمون أطفالهم بلغتهم الأم التي حرموا منها.
ولقد أدت الحرب وظروف الاحتلال إلى آثار اجتماعية ونفسية على المرأة بشكل خاص , حيث تعاني المرأة ويلات النزوح بأشكال متعددة فعليها تحمل وطأة الاقتلاع, وفقدان البيت والممتلكات والأقارب, وتشتت العائلة, وعدا عن الخوف والتعب والإرهاق أثناء عملية الانتقال فقد تتعرض للانتهاك الجنسي أو تفقد حياتها، وما إن تصل إلى المخيمات حتى تبدأ معاناة جديدة, فالاكتظاظ وسوء توفر الخدمات والمرافق الأساسية, وفقدان الخصوصية العائلية فلا ماء ولا كهرباء ولا تبريد ولا تدفئة ولا رعاية صحية واجتماعية ولا طعام, وحتى إن وجد فإن المرأة تفضل أولادها عليها, وقد تتعرض للابتزاز لتوفر طعام أولادها ما يؤدي بها إلى أمراض جسدية ونفسية جمَّة , إلى جانب ظروف الاعتقال والاغتصاب والعنف الجنسي التي تتعرض له النساء من قبل الفصائل المسلحة كما حصل في عفرين وريفها وغيرها من المناطق المحتلة؛ أدت ببعضهم إلى التفكير في الانتحار والخلاص, جرَّاء الذي لحق بهن من أذى, فهؤلاء النسوة يتعرضن للقتل أكثر من مرة في حياتهن الأولى, الاعتقال والاغتصاب, والثانية في ما يتناوله المجتمع حيث المستقبل المجهول بالنسبة لهن, وهذا ما يؤدي بهن إلى الاكتئاب الذي يتحول إلى أمراض نفسية مزمنة تودي بالحياة.
وإلى جانب كل ذلك تستمر دولة الاحتلال التركي في هجماتها وتهديداتها على المناطق السورية, وتعمل على استغلال الأزمات الدولية والإقليمية لخدمة سياستها الاحتلالية ومع الصمت الدولي اتجاه الإرهاب التركي في مناطق شمال وشرق سوريا، والذي جعل الإدارة الذاتية تحت ضغط كبير سواء إن كان اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً والحد من قدرتها على محاربة الإرهاب وفي تنفيذ المشاريع التنموية، بالإضافة الى التنسيق العسكري والأمني مع كل من تركيا روسيا وإيران والنظام حول هدفهم المشترك هو محاربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا عبر شل القدرة الاقتصادية خاصة بعد تدمير البنى التحتية والمصانع والمنشئات الخدمية , ومحاولة تفتيت الحاضنة الشعبية لها, وجعلها معرضة باستمرار للهجمات الإرهابية وللفتن ، وأيضاً لإضعاف حالة الأمن والاستقرار فيها تمهيداً لإعادة إحياء تنظيم داعش, وهذا يُشير إلى أنه ثمة نوعاً من المقايضة بين محاور آستانا, وبالتالي إن استمرارية الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها الاحتلال التركي بحق النساء في المناطق التي احتلها في شمال شرق سوريا من قتل , اغتصاب ,خطف وأغتيال النساء والاتجار بها، وإبادتها ثقافياً وسياسياً وعلى كل الأصعدة ،وهذا كله لدور المرأة البارز وفعاليتها التي باتت واضحة وجلية لجميع الاطراف المحلية والاقليمية والدولية، لذلك فقد باتت المرأة هدفاً للجهات المعادية , وبالرغم من ذلك أثبتت الإدارة الذاتية من خلال نشاطها في سنوات الأزمة السورية على أنها المشروع الأنسب لسوريا المستقبل والأكثر قابلية للحياة والتطبيق الفعلي على أرض الواقع وذلك وفقا لعقد اجتماعي يضمن حقوق كافة المكونات والاطياف السورية.
ومع ذلك إن القضية السورية مازالت مستمرة في التعقيد وعدم الحل ، وذلك لاستمرار زيادة الانتهاكات من قبل سياسات سلطة النظام السوري والاحتلال التركي من العنف والاستغلال بكافة أشكاله، ومن القتل والمجازر والاعتداءات و التهجير والنزوح الداخلي واللجوء الخارجي ، ولا سيما سياسة الاستيطان والتغيير الديمغرافي وكل هذه الانتهاكات تشكل خطراً على حقوق الإنسان ، وتؤدي إلى انتهاك حقوق الشعب السوري في كافة نواحي الحياة بدءاً من الحق الأساسي في الحياة والعيش بكرامة، إلى كل الحقوق الأخرى.1
فالشعب السوري من حقه تقرير مصيره في بناء سوريا المستقبل سوريا ديمقراطية تعددية لامركزية، وذلك عبر الاعتراف بالإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا التي عملت على خلق روح الأخوة بين الشعوب وتنوع الثقافات لضمان حقوق جميع المكونات والأطياف السورية المتعايشة في المنطقة مبنية على احترام عقيدة وثقافة الآخر والتشارك إلى جانب ذلك لعبت المرأة دوراً كبيراً في هذه الإدارة من خلال دورها التاريخي المبني على العدالة والمساواة والمشاركة الحقيقة في الإدارة والدفاع عن سوريا .
وبناء ًعلى ذلك إن مجلس المرأة العام في حزب سوريا المستقبل صاحب رؤية واضحة في حل الأزمة السورية وذلك عبر ضمانات ورعاية دولية في إنهاء الاحتلال التركي وعودة المهجرين والنازحين إلى ديارهم وإعادة الإعمار في سوريا ،وكما يتوجب على جميع السوريين التفكير العميق والتحليل السليم لمراحل الأزمة السورية ، من أجل إيجاد السبل السياسية والقانونية والاجتماعية لنيل حقوقنا المسلوبة، وفي الوقت نفسه علينا تحرير أنفسنا من هذه الذهنيات التي تكونت ضمن إطار الدولة والسلطة التي لا ترتبط أي ارتباط بالطبيعة الحقيقية للإنسان، لأننا بصدد مرحلة تاريخية لتحرير الذهنية من النظريات الشائعة بأن السلطة تعني الحرية حيث بات المجتمع يقتنع بأنه يجب أن يكون سلطوياً أو عبداً ليكون حراً وهذه الذهنيات أفقدت المجتمع من قدراته وطاقاته كي لا يتمكن من رؤية ولو جزء من حقيقته الجوهرية، لأن معنى الأمن الإنساني هو التحرر من الخوف والتحرر من الحاجة …فهنا نقصد الخوف من القتل والعدوان أو من ارتكاب جرائم الحرب والكوارث الطبيعية فاليوم نحن نتعرض لانتهاكات شرسة وعنيفة، ونعيش تحت نير ظلم الاحتلال التركي فهنا لاتحرر من الخوف فأما أمس الحاجة.
بقلم غالية كجوان: ناطقة مجلس المرأة العام في حزب سوريا المستقبل