نواف خليل يكتب: أسطورة التغيير الديمغرافي في مناطق الإدارة الذاتية!

1٬014

في مقال بعنوان “وجوه التغيير الديمغرافي في سوريا”، نشرته صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 10 يناير 2020، يرتكب الكاتب السوري أكرم البني مجموعة من المغالطات باتهامه الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا بالقيام بعملية تغيير ديمغرافي في مناطقها، متهما حزب الاتحاد الديمقراطي كذلك بنفس التهمة.

اللافت أن الكاتب لا يذكر شيئا على الإطلاق عن القرى والمناطق التي حدث فيها هذا “التغيير الديمغرافي”، ولا كيف تم جلب الكرد من أجزاء كردستان الأخرى “تركيا العراق وإيران”، وكيف تم ويتم إخفاء وجودهم وهم قطعا يجب أن يكونوا بالآلاف، ويعيشون في قرى يجب أن تكون معروفة ومرصودة!

لم تبق المعارضة، بمختلف أسماءها ومسمياتها، ما لم تتهم به حزب الاتحاد الديمقراطي، لكنني ولأول مرة اقرأ هكذا اتهام، لدرجة دفعت البعض أن يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي ليوجه دعوة للكاتب ـوتحمل تكاليف سفره- لزيارة المنطقة والكشف عن “التغيير الديمقراطي”.

الأغرب أن المجلس الوطني الكردي العضو في “الائتلاف”، يتهم حزب الاتحاد الديمقراطي والإدارة بأنهما “قاما بتغيير ديمغرافي لصالح المكون العربي”، نتيجة استقبال أكثر من مليون نازح عربي هربوا من المواجهات في المناطق الداخلية السورية. وكان الاتهام يدور خاصة حول “تعريب” عفرين، والتي كانت تحتضن قبل الاحتلال التركي ما يقارب من 500 الف نازح سوري عربي.

الوقائع على الأرض تقول إن الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا لم تقم بأي تغيير ديمغرافي بحق المكون العربي، أو أي مكون آخر، فهذه المكونات كلها ممثلة ضمن هيئات الإدارة الذاتية، التي لا تقوم على الهوية القومية الكردية فقط كما يحاول الكاتب أن يصور الأمر، بل تقوم على مبادئ العيش المشترك والابتعاد عن الحل القومي الضيق، وتفضل الإطار الديمقراطي القائم على فكرة التعددية الإثنية والدينية والمذهبية ضمن “أمة ديمقراطية” متفقة على عقد اجتماعي ناظم للعلاقات بين كل المكونات المختلفة. المكون العربي ممثل بشكل جيد في الإدارة، وأثبت طيلة  السنوات الماضية تفاعلا كبيرا من خلال المشاركة في المجالس المناطقية والكومونات والمنظمات المختلفة. كذلك، شارك العرب في الدفاع عن مناطق الإدارة الذاتية بقوة، حيث يشكل الشابات والشباب العرب نصف تعداد قوات سوريا الديمقراطية الآن، وفقد الآلاف منهم حياتهم ضمن تشكيلات هذه القوات، خلال التصدي للإرهاب الداعشي في كل من محافظتي الرقة ودير الزور، ومواجهة الاحتلال التركي ومرتزقته، فكيف يقبل هؤلاء بوجود “تغيير ديمغرافي” مزعوم بحق أهلهم؟ وكيف يدافعون عن مشروع ويضحون بحياتهم من أجله، وهذا المشروع يمارس “التغيير الديمغرافي” بحقهم؟

لقد تجلى عمق التحالف الاستراتيجي بين الكرد والعرب على الصعيد المجتمعي والعسكري أثناء وبعد الغزو والاحتلال التركي لـ”تل أبيض”و”سره كانيه/رأس العين”، من حيث الدفاع المشترك عن كل المناطق من قبل عشرات الآلاف من  العرب إلى جانب الكرد والسريان الآشورين وبقية المكونات. ولولا هذا التحالف والتكاتف لانهارت المنظومة العسكرية بأسرها،ولتمكنت القوات التركية والفصائل المسلحة الموالية لها، من احتلال كامل المنطقة المحررة ذات الأغلبية العربية، مثل الطبقة والرقة ودير الوزر ومنبج.

أما العرب الذين جلبهم النظام السوري بداية التسعينيات إلى مناطق الحسكة العليا في إطار مشروع (الحزام العربي)، من الذين غمرت مياه سد الفرات قراهم في الرقة، وسموا لاحقا بـ”العرب الغمر” وبنى لهم النظام عشرات القرى بعد مصادرة أراضي الفلاحين الكرد، فقد بقوا في قراهم بعد 2011 ولم يتعرض لهم أحد. وينبغي الاشارة هنا إلى أن “إعادة” هؤلاء الناس إلى مناطقهم كانت على رأس أجندة الأحزاب الكردية قديما وحديثا، لكن الإدارة الذاتية الديمقراطية رفضت الخوض في هذا الامر نظرا لحساسيته، ولكي لا تتهم بمثل الاتهامات التي كالها الكاتب أكرم البني دون وجه حق.

لم يثبت حدوث أي تجاوزات بحق المكون العربي أو المكونات الاخرى غير الكردية، مثل السريان والأرمن والشيشان. كما أن المكون العربي هو الذي يمثل أغلبية المجالس والإدارات وقوات الأمن في المناطق التي يشكل فيها الأغلبية العددية، مثل مناطق محافظتي الرقة ودير الزور، إضافة إلى بعض مناطق الحسكة. وإذا كانت هناك تجاوزات هنا وهناك، فهي فردية ويتم تطويقها ومحاسبة مرتكبيها فورا. كما أن منظمات حقوق الإنسان الدولية تشهد للإدارة الذاتية جهودها في نبذ العنصرية والطائفية، ففي مناطق الشمال والشرق السوري، يستطيع أي سوري وكل سوري، أيا كانت طائفته أو قوميته أو دينه، العيش والعمل على عكس مناطق المعارضة المسلحة المواليةلتركيا، حيث القتل والتهجير على أساس الهوية القومية والطائفية.

نعم حدث نزوح للمدنيين بسبب العمليات العسكرية ضد “داعش”، وهناك تجاوزات حصلت بالتأكيد أثناء تحرير المناطق المختلفة من التنظيم، لكنه أمر مختلف عما يزعمه الكاتب أكرم البني عن “تغيير ديمغرافي”. وللعلم، فقد حصل الأمر نفسه في المناطق ذات الأغلبية الكردية أيضاً. على سبيل المثال، أفرغت مدينة “كوباني” وقراها من المدنيين أثناء الحرب ضد “داعش”، وبدأ السكان بالعودة التدريجية إليها بعد تحريرها من التنظيم وتأمين المنطقة والبدء بحياة شبه طبيعية تدريجياً، ومع ذلك لم يعد جميع السكان.

ولم تمنع الإدارة الذاتية ووحدات الحماية وقوات سوريا الديمقراطية المدنيين، عرباً كانوا أو كرداً أو سرياناً أو تركماناً،  في أي منطقة من العودة إليها بعد انتهاء العمليات العسكرية. ولم يتم إسكان أي كردي في منزل أي مواطن عربي أو تركماني،  بخلاف ما يحصل تماماً في مناطق الاحتلال التركي والفصائل السورية العميلة لـ”أنقرة”؛ إذ عملت قوات الاحتلال التركي ومرتزقته من السوريين على إحداث تهجير قسري ممنهج في “عفرين” بعد احتلالها في العام 2018 وإسكان عشرات آلاف العوائل التركمانية والعربية في منازل السكان الأصليين في “عفرين”، ومنعهم من العودة وممارسة الانتهاكات والجرائم الممنهجة لطرد سكان “عفرين” الأصليين بغالبيتهم الكردية. وقد جرى هذا وفق سياسة مرسومة وممنهجة وواضحة  لا تزالمستمرة حتى اليوم، بحيث انخفضت نسبة السكان الأصليين الكرد في “عفرين” من حوالي 98% إلى 25% أو أقل حتى. هذا هو التغيير الديمغرافي، ونرى أن الكاتب أكرم البني مطالبٌ بذكر أسماء القرى أو المدن أو المناطق التي تم إسكان كرد فيها بدلا من العرب؟ ويقيناً أنه لن يستطيع ذكر مثال واحد فقط!

لقد جاء اتهام الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا وحزب الاتحاد الديمقراطي من قبل الكاتب أكرم البني إقحاما في الموضوع، فهو يتعرض إلى حملات التغيير الديمغرافي التي يقوم بها النظام السوريوميليشيات ايران، وتقوم بها قوى المعارضة السورية الموالية لتركيا، فرأى ان يقحم اسم الإدارة والاتحاد الديمقراطي على سبيل “التوازن” دون الاعتماد على الأدلة والإثباتات، وهذا ظلم ومجافاة للواقع والحقيقة واتهام باطل، لا يدل على الإنصاف وتوخي الحقيقة أبدا. وهنا ندعو الكاتب أكرم البني، وهو السجين السابق الذي عانى من الظلم ومصادرة الحقوق وانعدام العدالة، إلى التعمق في الموضوع والاطلاع على واقع الأمور وزيارة مناطق الإدارة الذاتية، والاتصال مع أبناء المكون العربي لمعرفة الحقيقة، وليس إصدار الأحكام بدون أدلة وبراهين، فهو يتحدث عن ملايين الناس، ويتهم بعضهم بارتكاب جرائم التطهير العرقي ضد البعض الآخر، دون دليل أو برهان. الكلمة مسؤولية. ولا يجب إطلاق التهم جزافا هكذا.

عن المركز الكردي للدراسات