حسن محمد علي يكتب: رسالة إلى الشهيدة هفرين

1٬769

كيف أكتب عنك رفيقة دربي، والكلمات تعجز عن التعبير. كيف أكتب عمن كانت تعبيراً  كثيفاً للحب والاحترام والارادة والهوية والرؤية.

كيف أكتب، والكلمات صغيرة أمام عظمتك.. أنا اليوم صغيرٌ أمامك، يا من أصبحت رمزاً..

ياهفرين.. رحلت بدون وداع.. كنّا على موعد لنرسم المستقبل..

هفرين رفيقتي، لا  أؤمن بالرحيل الجسدي، لذلك سأسطّر بعضاً مما يخالجني، وأدرك تماماً أن روحك ترفرف في سمائنا، وتشاركنا الحزن والفرح. أنا على يقين، أنك تعلمين ما سأكتب، وتدركين فحوى رسالتي، لمعرفتك الدقيقة بالشخصيات،  وأعلم يا رفيقتي تماماً ما ستقولينه.

رفيقتي هفرين مهندسة، ولكنها عملت على هندسة حياة السوريين. خططت ورسمت لبناء سوريا الحديثة المتنوعة.

كانت هفرين معلمة، وفي ذات الوقت تتعلم. متواضعة منطلقة. ترسم الابتسامة أينما حلت.

من يعرف هفرين سيتذكر ابتسامتها التي كانت تحمل الأمل.

رفيقتي أعلم كم كنت تواقة إلى مجتمع حر، تسود فيه العدالة والديمقراطية، ولذلك لم تتوانِ يوماً عن العمل من أجل تحقيق ذلك الحلم. حلم كل السوريين. ولطالما نشدت باسم سورية المتعددة، ولأجل ذلك سعيت لتشكيل حزب سوريا المستقبل، لتحويل تلك الرؤية الى واقع. لم تثنيك الجغرافيا، ولا العقبات في المضي قدماً.

هفرين  لقد عملنا معاً، وناضلنا، وكافحنا من أجل تأسيس حزب سوريا المستقبل. كنتِ تمثلين القلب النابض لهذا الحزب. وتبشرين بمستقبل مشرق لوطن كان يسكنك.  كنت تنظرين إلى الوطن، ومن الوطن إلى المحن. كنت تمثلين بذرة الأمل، التي تنغرس مباشرة فيمن فقدوا الأمل.

كنتِ مثابرة، لم يعرف اليأس يوماً طريقه إليك. ولم نعرف يوماً حجم التعب الذي تبذليه. تشقين دربك بقوة وبأس وجدارة، وتبتعدين عن حياة الكفن.

كان شعارك العمل ثم العمل،  لتصل رسالتك إلى العالم، وتصل أمنيات شعبك إلى الحقيقة.

استطعت جمع شمل حزب تأسس في بيئة بعيدة عن المعترك السياسي.

كنت تخططين لتحويل الحزب إلى قيادة طليعية قادرة على اجتياز هذا المعترك الحاسم والتاريخي، و أثبتِ  للعالم ذلك بتصميمك حتى الشهادة.

كامرأة سوريا كنت حاضرة دوماً، لتقولي  للعالم أن المرأة السورية تنشد السلام.  كامرأة سورية كنتِ تحاولين مداواة جرح سوريا، التي عصف بها  التشتت والدمار والتجزئة. كامرأة سورية وحدتِ الخطاب والكلمة. كم تحتاج سوريتنا لأمثالك رفيقتي. كم تحتاج لامرأة بناءة، امرأة قائدة..

هفرين.. ما زالت نقاشاتنا تصدح في القاعات، صدى صوتك وأنت تطرحين أفكاراً جديدة على رفاقك. مازال صوتك يجول  في القاعات.

هفرين هذه القاعات تفتقدك اليوم.

سأخبركِ سراً.. أنت مازلتِ تطرحين الأفكار، ومازلتُ أناقشك فيها. ونختلف كما كنا سابقاً، ثم نعود ونلتقي مجدداً، وروح المرح تخيم في أحاديثنا.

كنت كما النهر يتدفق في جريانه عطاءً ومحبة.

هفرين ربما تتذكرين قلعة النجم الشامخة، ووقفتك التي كانت تنافس القلعة في شموخها. تلك الوقفة التي مازال عبق ذكراها عالقاً بين جدران ذلك التاريخ، ليتحد مع الحاضر الجديد، ويروي للمستقبل قصة شعبي الموجوع الثائر منذ الأزل. قصة المرأة الكردية، التي ناطحت الصخر، لتبني قلعتها، ها أنت اليوم شامخة، كما تلك القلعة، وها هو شعبنا يروي قصة بطولتك لأبنائه.

هفرين نشرتِ عبق الياسمين في كل مدينة زرتها. أفكار السلام التي كنت تناقشينها في المدن بروح امرأة سورية، ترددها الآن ساحات تلك المدن.

الياسمين اليوم هو هفرين هذه المرة.

أتعلمين ..! كل يوم نرزق بهفرين جديدة، أتعلمين بأن روحك ترفرف فوق سماء سوريا حاملة ياسمين السلام، ليحقق حلمك!

رفيقة دربي أهذا هو الرحيل؟

هل تؤمنين بالرحيل يا ياسمينة سوريا!

لا ..مطلقاً.. أنت اليوم في كل الساحات، فكل قطرة دم من جسدك الطاهر، ستلاحق أولئك الأوغاد. دماؤك تعلن يوم الحساب. أعلم بأنك ستنتقمين منهم، أنا أعرف عزة نفسك واعتدادك. قلعتك الآن شامخة، توازي جبال جودي رفعة، أنت جبلٌ يواجه جودي ويصاحبه، ستروين له عن تمسكنا به، تحدّثيه عن جميلات وطني، كيف أصبحن شهداء هذا الوطن.

هفرين أتذكر جيداً أمك، وعلاقتك بها، وقلقك الدائم عليها، لكنك كنت مقتنعة بأن الأم الكبيرة، يجب أن تتحرر، لذلك كانت تهون عليك الصعاب والابتعاد عن أمك “اليادي”..

صديقتي.. عرفت الآن كيف وصلت الى هذه المرتبة، عندما رأيت أمك. تعرفت إليك مجدداً. عرفت تلك الروح التي لم تكن تستسلم للصعاب والمخاطر، فأمك اليوم ليست أمّاً فقط، بل وطن كبير بقلب أم.

أمك اليوم أبدت مقاومة لا نظير لها. أعرف بأنك تقولين: أمي وأعرفها، وتبتسمين كعادتك، وعيونك تلمع شوقاً.

عزيزتي.. أمك اليوم كانت تعلمنا معنى الوطن، معنى الإرادة والتصميم والانتقام. لم تبكيك لحظة.. بل غنت لك يا عزيزتي.. غنت بصوت حنون بصوت أم تزف ابنتها.

رفيقتي سأتحدث قليلاً عن تضحياتك..

التضحية عندك يا هفرين لها معانٍ خاصة، تتجاوز المعاني المتعارف عليها. التضحية كانت في مدى تحقيق العمل، ومدى تطويره، وتحقيق النتائج، ومناسبة النتائج مع الهدف، وتناسب الهدف مع الواقع الاجتماعي والسياسي والتنظيمي والثقافي  للمجتمع.

هفرين.. لا تعرف الوقوف، كانت تسير مسافات طويلة في يوم واحد، ودون أن تشعر بالتعب، رغم بعض آلامها ووضعها الصحي، لكن إرادتها كانت أقوى من المرض. تراها دائماً مندفعة، تعمل وكلما عملت تطلب المزيد من العمل. تناقش وتحاور وتصل الليل بالنهار، دون أن تشعر بالتعب، لأن هدف النضال والعمل والكفاح أسمى.

تقوم بعقد الاجتماع، وتقطع مسافات طويلة، من أجل أن تكون على رأس  عملها. كانت تنطلق في ساعات الصباح الأولى، حين يكون الصباح نائماً، من ديريك لتصل الى مركز عملها بالرقة في التوقيت السليم.

تصل قبل المتواجدين في الرقة، هذا هو جانب من التضحية في شخصية هفرين.. لا تكتفي بالعمل فطبيعتها تجعلها تهتم بأمور وأعمال لا تنتهي باجتماع.

تبدأ بالحديث مع الرفاق وتناقش مشاكلهم وتنصحهم وتوجههم وتحل مشاكلهم وتتحول إلى مصدر للمعنويات لكل من يتحدث معها. كانت تعرف كيف تقترب من الأمور  الحساسة، وتعالجها بمنطقها المرن وبأسلوبها المتفتح والدبلوماسي، دون أن تخلق ضرراً لأحد، لا بل تجعل من أصحاب المشاكل أكثر قرباً.

تقرأ التقارير، وتقيِّم الملاحظات، ورغم كل هذا التعب والانهاك المكثف اليومي، تبتسم ولا تظهر  علامة من علامات الارهاق والتعب. وهذا شكل آخر التضحية.

لا تعرف المخاطر رغم صعوبات الطريق، ورغم خطورة الوضع  كانت حاضرة في جميع الساحات. أرادت نشر ياسمين سوريا في كل بقعة منها، ولم تتوانَ يوماً لأن قوة التضحية هي في مدى التزامها بعملها.

هل تعرفين..!

أصبحت لنا العهد والوعد.

هل تعرفين..! أصبحت الأمل المنثور في كل بقعة، وفي كل حديث، أنت الأساس، وأنت الأصل وأنت الرمز وأنت القيادة.

هل تعرفين..! سألت دموعي.. لا تقولي يا هفرين لما هذه الدموع.. ليست دموع.. هي الروح، تريد أن تتطهر وهي تواجه روحاً طاهرة.

كم أنت عظيمة يا صغيرتي.. كم أنت أصيلة يا ابنة الوطن..

رفيقتي هفرين.. روحك المرحة تحاصرني. وكلماتك تلك أصبحت صوراً تزيّن جدار ذاكرتي..

هل تذكرين يا جميلتي، عندما كنت تسألين: أين أنت؟ وأردّ: أنا في العين، أو في طريقي إليها.. وكان جوابك: أنا في العقل.. هفرين.. أنت الآن في العقل..

هفرين لا تفي الكتابة حقك.. مهما كتبت ستبقى كلماتي قصيرة أمام حجم تضحيتك وإيمانك بقضيتك وقضية شعبك.

هفرين لما هذا الرحيل..! أيبدوا هذا الرحيل الذي اخترتيه،  جميلٌ، لأنه يعبق بلقاء قديسي وطني..! رحيل  مثمر يليق بك يا ياسمينة وطني.

#حزب_سوريا_المستقبل
#الشهيدة_هفرين_خلف
#مقالات