خامنئي والتمرّدات في “امبراطوريته”!

987

عبد الوهاب بدرخان

لفت دخول المرشد الإيراني على خط الأزمتين في لبنان والعراق الى أن إيران نقلت أدوارها في دول نفوذها الأربع (مع إضافة سوريا واليمن) من الكواليس الى الواجهة. لم تعد طهران تحبّذ قصر تحركاتها على الاتصالات السرية المباشرة مع قادة الميليشيات التي فرّختها. كان التدخل الروسي منحها الفرصة لمضاعفة وجودها العسكري وللمشاركة في لقاءات دولية حول سوريا قبل أن تؤطّر موسكو شريكيها الإيراني والتركي في مسار استانا. وبات مفهوماً أن سلطة الاحتلال الأميركي للعراق ارتضت نوعاً من تقاسم النفوذ مع ايران التي ما لبثت أن احتكرت الساحة العراقية بعد الانسحاب الأميركي أواخر 2011. ولم تكن مضطرّة للظهور في لبنان باعتبار أن الأمين العام لـ “حزب الله” قادر على إدارة هيمنة حزبه على عمل مؤسسات الرئاسة والحكومة والبرلمان، بل انها عهدت إليه ببعض جوانب الأزمة السورية، وبإشراف كامل على ملف اليمن الذي فضّلت إبقاء الغموض على دورها فيه.
مع تصاعد الأزمة الاميركية – الإيرانية أصبحت طهران أكثر حرصاً على إبراز مناطق نفوذها والحديث المباشر عنها، وحتى نشر صورة منتصف آب (أغسطس) الماضي تُظهر المرشد علي خامنئي للمرة الأولى مع قياديين حوثيين، ثم تعيين “سفير” لهم في طهران، وذلك قبل شهر من عملية ضرب منشآت “أرامكو” في السعودية (منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي) التي نُسبت اعتباطاً الى الحوثيين. ومنذ تلك العملية انتقل الإيرانيون (روحاني، ظريف، قادة في “الحرس الثوري”…) من التلميح الى التصريح في شأن اليمن، بهدف تحفيز السعودية على التحاور معهم، لكن خصوصاً لمخاطبة واشنطن التي تقول إن هدفها دفع إيران الى “تغيير سلوكها”. فمنذ بدء الاتصالات السرّية مع الاميركيين راح الإيرانيون يضفون طابعاً أكثر علنية ورسمية على كونهم “يحكمون” لبنان والعراق واليمن، وقبل أيام استضافت طهران اجتماعاً خاصاً لشيعة البحرين واليمن ونيجيريا.
لم يتردد خامنئي في وصف الاحتجاجات اللبنانية والعراقية بأنها أعمالٌ “تخريبية” تتم بتحريضٍ من الولايات المتحدة وإسرائيل وتمويلٍ من دول خليجية، ومع اعتباره مطالبها محقّة دعا الى تحقيقها “ضمن الهيكليات والأطر القانونية”، أي تلك التي تسيطر عليها ميليشياته وتديرها. كان الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله سبق خامنئي في الإشارة الى وجود “مؤامرة” وراء تلك الاحتجاجات، مشدّداً على أن ما يناسب “حزبه” هو فقط الواقع الذي بناه على مراحل من الترهيب والاغتيالات، ولذلك فرض “فيتوات” على الحلول والمخارج: لا استقالة للحكومة، لا إسقاط لـ “العهد”، لا انتخابات مبكّرة. أي ولا أي تنازل للانتفاضة الشعبية. ظهر نصرالله الى جانب علم لبناني وكأنه يدعو الى نسيان إعلانه الفجّ (10 سبتمبر) عن ولائه الخالص لخامنئي من الشاشة ذاتها، لكن العلَم لم يمنعه من تهديد المنتفضين وتصنيفهم بين مأجور وعميل، ومن تخويفهم من “الفراغ السياسي” ومن “حرب أهلية”. كان مسكوناً برغبة شديدة في الإجهاز على هذه الانتفاضة بأي شكل وأي ثمن. لكنه كان و”حزبه” قد انكشفا، من دون أن تُطلق عليهم رصاصةٌ واحدة.
أما نظراؤه العراقيون في بعض فصائل “الحشد الشعبي” الأكثر ولاءً لخامنئي وقاسم سليماني فكانوا قدموا له النموذج الوحشي الذي يمكن أن يتّبعه. قاربت حصيلتهم ثلاثمئة قتيل وعشرة آلاف مصاب، وقد تفننوا في الاجرام اليافعين، لكن الناس استبسلت ولم تنكفئ من الشوارع والساحات، فهي تخوض على أي حال معركة حياة أو موت. كان سليماني قصد بغداد مهدّداً ومتوعّداً وأعطى تعليماته بأن تُضرب الانتفاضة الشعبية بقسوة، إلا أن المتظاهرين فرضوا عناوينهم: “اسقاط النظام”، “استقالة الحكومة”، “انتخابات جديدة”، “محاسبة الفاسدين”… ومنذ تلك اللحظة لم يعد هناك جدول أعمال آخر في العراق. هذا ما حصل أيضاً في لبنان من دون سفك دماء… حتى الآن. ففي البلدين أصبح النظام معطوباً والحكومة مشلولة والبرلمان مشتبهاً بحقيقة تمثيل أعضائه للشعب.
لكن اللبنانيين والعراقيين باتوا يعتبرون هذا النظام “إيرانياً”. وهذا ما أراد خامنئي أن يسلّط الضوء عليه، فهو أيضاً مثل سليماني ونصرالله وهادي العامري عادل عبد المهدي يريد إنهاء ما يرونه “شغباً” في بلدين من “بلدان الولاية”. وقد فُهم تدخل خامنئي أولاً بأنه يضع الاحتجاجات في سياق الأزمة الإيرانية – الأميركية والضغوط التي تمارسها واشنطن على طهران كي تغيّر سلوكها، وثانياً أنه شاء التذكير بأن إيران تملك نفوذاً على رئيسي البلدين وحكومتيهما وبرلمانيهما. وبالتالي فإن المرشد، بصفته المرجع الأعلى، لم يحبّذ أي تغيير في مسار هذه المؤسسات من دون إذنه. ولذلك لم تكن استقالة سعد الحريري مقبولة لأن نصرالله، وكيل المرشد، لم يجزها. كما أن عادل عبد المهدي رفض الاستقالة انطلاقاً من رفضه تحميله مسؤولية الأزمة، خصوصاً أن العنف المفرط الذي مورس ضد المتظاهرين حصل من دون أوامره على رغم أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة.
لم يرَ خامنئي أن “نظامه” يتعرّض لاضطرابات في العراق ولبنان لأسباب لا علاقة مباشرة لها بالأزمة مع الولايات المتحدة، ولم يجد مصلحة في أن يعترف أو يدعو أعوانه الى مقاربة مختلفة لحقيقة المشكلة لأنها تتعلق بفشل السلطة، سلطته، فضلاً عن عجزها عن التعامل مع الدوافع الاقتصادية والاجتماعية لمعالجة الغضب والنقمة اللتين أخرجتا الناس الى الشارع. تعوّد المرشد على ضرب أي تمرّد في إيران بالقوة الوحشية، وليس لديه أي أسلوب آخر لمواجهة التمرّدات في أنحاء “الامبراطورية”، ولديه دائماً المبرّر “الشرعي” فالجمهورية الإسلامية تتعرّض لهجمات من “أعداء الإسلام”.
التشابه والتشارك كبيران بين الانتفاضتين في لبنان والعراق، خصوصاً في الانسداد الايراني. الفارق أن لبنان مهدّد بانهيار مالي واقتصادي حتى لو حصلت معجزة في حلحلة سياسية للأزمة، وأن العراق لجأ الى “حرسه الثوري” لقمع الاحتجاجات. ليس مستبعداً أن يأخذ “حزب الله” سلمية الحراك اللبناني الى العنف لكنه يريد أن يبقى “حاكماً” ومهيمناً، ولا مستبعداً أن يزداد “الحشد الشعبي” توحّشاً لأن هذه إرادة المرشد. فأي تغيير في هذا التوقيت يعني أن الاستراتيجية الأميركية بدأت تنجح.

عبد الوهاب بدرخان “منشور في صفحته في الفيس بوك”

#حزب_سوريا_المستقبل