بعد مضي عقد من الزمن على بدء مطالبة النساء السوريات بالتنوير والانفتاح والسعي بالتحرير وإحقاق الحقوق ، نتيجة حجم العنف الاجتماعي القائم والتردي الحقوقي الملازم ، وقد بات جلياً أن تردي أحوال المرأة وفشل مشاريع تحريرها ورفع الضيم عنها مرده الأساس لمقاومة عقلية النظام السلطوي وبناه الثقافية التقليدية في جميع مفاصل الحكم والحياة العامة ، وأيضاً لمقاومة المرأة نفسها بجهلها بحقوقها واستكانتها للعنف الممارس عليها وأحياناً نضالها المعاكس المعادي لحقوقها تحت استلاب أفكار القداسة الموروثة التي قلبت موازين الحياة ، فالمراد تحليله وبشكل بديهي أن أي نهضة في واقع المرأة العربية لن تحدث بغير وعيها بحقوقها ونضالاتها هي بالذات دفاعاً عنها … ولن تحدث بغير تحديث العقل الجمعي وانفتاح الثقافة على العصر الديمقراطي … وقطعاً لن تحدث إلا بالإنصاف لقضية المرأة العادلة فعلاً لا قولاً وشعارات مزيفة كما هو حال الانظمة القوموية القائمة في وقتنا الراهن ، إلا أن وضع النساء في التراتبية الاجتماعية والتي هي من أكبر دافعي ضرائب الحرب الدائرة في سوريا ، على الرغم من أنهنّ على الغالب لا يشاركن فيها مباشرةً، لكنهن للأسف أوّل من يجني تبعاتها المرعبة من قتل وخطف واغتصاب، إضافة إلى معايشتهنّ مقتل أطفالهن أو أزواجهن وإخوتهن، عدا التهجير والنزوح وفقدان الخدمات العامة الأساسية للحياة، مما يتركهنّ عرضةً وفريسةً سهلة لمشاعر الخوف والحزن والاضطرابات النفسية المتعددة.
وقد حظي الواقع السوري بأعداد كبيرة من النساء اللواتي قُتلن أو اغتُصبن بأساليب وحشية ومقززة أمام أطفالهن وذويهنّ، وهذا ما يخلّف لهنّ صدمات نفسية وأخلاقية تترك بصماتها على مستقبل حياتهنّ، عدا معاناتهنّ المتمثلة في ندرة الخدمات الأساسية كالماء والغذاء والدواء أو فقدانها، إضافة إلى تحملهنّ أعباء أسرية مضاعفة بحكم غياب الرجل تتمثل بتلبية احتياجات الأسرة المادية والاجتماعية دون أثر لأيّ دعم مادي أو نفسي أو اجتماعي.
ومن خلال ملامسة الواقع الاجتماعي للمرأة في المجتمع وفي ظل أخطر الظواهر السلبية التي تتعرض لها في كل مكان وزمان وفي كل لحظة من الحياة التي تصفها بالحياة اليائسة التي لا مفر منها ، ألا بتصحيح المفاهيم والمسارات الخاطئة للواقع المرير الذي يمارس عليها من قبل مفاهيم وأساليب الذهنية الذكورية الفارغة من جوهرها ومعناها السليم .فحالات القتل التي تُرتكب بحقها بحجج وبراهين تقليدية غير عادلة لا صحة لها في مفهوم المجتمع الديمقراطي والأخلاقي ، ومن أبرز أسباب قتل النساء التي يتم تداولها بحجة الشرف المزعوم الذي يجلب العار والفضيحة معه ، أو بسبب النزاعات والخلافات العشائرية التي تعطي الحق بقتل وإدانة المرأة ولا تعطي الحق بإدانة الرجل ، وحتى تحكم بما لا يتصوره العقل والوجدان وأنها لا تتعامل مع كلا الجنسين بالمثل …على سبيل المثل في هذه الآونة وقعت مشكلة عائلية من أجل أغراض دنيئة لا تذكر ، فأمست ضحيتها قتل امرأة بريئة ولم يتم الانصاف لحقها لأنها أنثى وليست ذكر وكأنه أمر اعتيادي ولم يتعامل معها كجريمة إنسانية تتطلب العدالة والإنصاف .
وأيضاً حالات الانتحار التي أصبحت وسيلة للخلاص من الحياة الحقة للمرأة ، وتعود هذه الحالة لفقدان الجانب المعنوي والروحاني لدى النساء ، والجانب الأخر هو التحديات والمصاعب الموجودة سواء إن كان من الوضع المعيشي المتردي او العائلة أو المجتمع الذي ينجم عنه الضغط النفسي الذي يولد حالة من اليأس وعدم الرغبة بالحياة ، وعلماً كل هذه الجوانب هي حق من الحقوق الطبيعية للمرأة ، ومن هنا نستطيع تقييم الحالة الذهنية السائدة في المجتمع سواء إن كانت من الجانب السياسي أو الاجتماعي او القانوني ، ونسلط الضوء عليها بطريقة عادلة وموضوعية للحد من العنف ضد النساء وقتلهن وكيفية تعزيز أسلوب العيش في البناء الاجتماعي والسياسي للحياة الحرة.
فواقع المرأة في هذا المجتمع العصري أشبه بالموت البطيء أو بالحياة الفارغة التي بدون معنى ولا معنى لها وتحتاج لولادة جديدة تنشئ من جديد ، ولكن ضمن أسس ومبادئ اخلاقية ومعايير ديمقراطية تؤمن لها الحياة الحرة والإرادة الحقة التي تليق بتاريخها العريق والمخفي منذ آلاف السنين والتي أضحت المرأة اليوم تعيش فيه تجربة خاصة وتواجه تحدّيات كبيرة، فإلى جانب الصعاب التقليدية التي تواجه المرأة في المجتمع السوري، التي من أهمّها التمييز بينها وبين الرجل، والعادات والتقاليد السلبية التي تسيطر عليها نظرةٌ دونيةٌ للمرأة، حيث وقعت ضحية ظروف حربٍ قاسية وازمة معقدة شائكة الحل ، إلى جانب ذلك القضايا الاجتماعية التي تعيق من تطور وتقدم المرأة ومازالت مرهونة الحل والجواب كمسألة المساواة الكاملة والفاعلة بين الجنسين بدء ً من أصغر خلية مجتمعية “العائلة” وصولاً للعملية الادارية بكافة مستوياتها ومجالاتها ، وعدم تناولها كقضية جوهرية ومهمة يتطلب حلها بشكل جذري ، وأيضاً مسألة تفعيل قرارات وقوانين المرأة في شمال شرق سوريا والتي تعمل على آمن وحماية النساء من جميع أشكال العنف ، وضد تفكك الأسرة والانتهاكات التي تتعرض لها ، وأصبحت من المطالب الانسانية الحقة في تحقيق العدالة الاجتماعية للمرأة ، ومن خلال ما تعرضت له النساء من ويلات الحرب من معاناة ومآسي ، نرى بأنها هي المتضرر الأكبر نتيجة الأزمة السورية ، وفي الوقت ذاته لا ننكر بأنه على الرغم من كل الظروف الصعبة التي مرت بها المنطقة من تحديات وصعوبات وعقبات بسبب التواجد الداعشي وانتشار فكره التكفيري وتجذره في بعض العقول ، الذي مازال يشكل خطراً وواضحاً وملموساً على الحياة المرأة والمجتمع .
وبالرغم من المعاناة وجميع التحديات والعوائق السياسية والاجتماعية و الاقتصادية التي تواجه واقع المرأة في ظل ماتشهده المنطقة من حالة الأمان والاستقرار وترسيخ القيم والمبادئ الديمقراطية ، وكفاح مجلس المرأة العام لحزب سوريا المستقبل من أجل بناء المجتمع الاخلاقي والسياسي ، ويسعى بكل طاقاته وإمكانياته لإثبات وتفعيل دور المرأة لتكون القوة المعبرة والضامنة لتطبيق جوهر المشروع الديمقراطي ، لتواصل مسيرتها النضالية وتقوم بدورها الريادي في كافة مجالات الحياة، وهذا مما يجعلها محط أنظار واستهداف لكل القوى الاستبدادية و الاستعمارية والجهات والشخصيات المعادية لحريتها ، لتنال القسم الاكبر من سياسات وأساليب الحرب الخاصة لنيل من المكتسبات والإنجازات العظيمة التي حققتها ثورة المرأة في شمال شرق سوريا ، وأصبحت مصدر إلهام لجميع نساء الشرق الاوسط و العالم ، وذلك من خلال التجارب السياسية و الاجتماعية في توعية وتنظيم النساء ، وتسليط الضوء عليها بأساليب وطرق واقعية وموضوعية في سبيل ايصال الحلول الأساسية والجذرية للقضايا العالقة والمتعلقة بشأن المرأة.
فلذلك يتطلب منا كنساء سوريات ويقع على عاتقنا مهام ومسؤوليات كبيرة جدا بدءً من حماية المرأة وأمن المجتمع ، والتعمق بمفهوم العائلة الديمقراطية وتحقيق الحرية بالتمكين والتوعية والتنظيم الذاتي للمرأة لتكون قادرة على مواجهة الهجمات الشرسة والمفاهيم الذكورية وأنظمة الدولة القومية، وذلك بتطوير قدسية قوة الدفاع عن النفس والارادة الحقة والتوعية الفكرية ، بأسلوب وطريقة مختلفة وقوية ، تستند على حرب الشعوب الثورية للمرأة والعمل الدؤوب لأخذ دورها الحقيقي والطليعي لقيادة هذه المرحلة …بحيث لا يمكن للمرأة الغير منظمة والغير واعية حماية نفسها ، ولا حتى يمكنها حماية مجتمعها وبهذا المعنى تحتاج الى بناء تنظيم خاص بها واغتنام الفرص لحماية ذاتها من الظلم وعدم المساواة ومن ثقافة الابادة وسوء المعاملة بحقها على أساس مبدأ “كيف تعرف حماية نفسها ” وكيف تعيش حياة متساوية وعادلة مع الرجل ، فمن هنا علينا تقييم واقع المرأة بشكل صحيح وسليم والبحث عن الجوهر الحقيقي لقضية المرأة النابعة من فكر الأمة الديمقراطية ، ليكون لها القرار في حماية المكتسبات التي تحققت ، وعليها في الوقت ذاته عيش لحظات مجيدة من الحرية والمشاعر والمعنويات العالية ، وحماية هوية المرأة وحماية إنجازاتها في شمال شرق سوريا التي تعتبر حماية لجميع إنجازات ومكتسبات المرأة السورية .
ورسالتي لكل امرأة تتطلع إلى الحرية عليكِ السير وفق فلسفة الحياة الزاخرة بالقيم والمبادئ والمعايير والاتجاهات الأخلاقية الصحيحة، وبالتالي عند مواجهة المشقات والعقبات عليكِ عدم الاستسلام والخنوع والرجوع الى الوراء ولو لخطوة او درجة واحدة ، وهنا الاستمرارية مهمة لتحقيق لحظات المجد والعلو، وطبعاً التحدي والمواجهة والسعي الدائم نحو بلوغ الأهداف مهم ولا يتوجب التركيز على أن تصبحي امرأة ناجحة بل ركزي على أن تصبحي امرأة ذات قيمة ومعنى للقيادة ، إذ أن الحضارات والدول لا تقاس ببنائها وثرواتها بل باهتمامها ببناء الشخصية والتنشئة السليمة الصحيحة المبنية على القيم و الأخلاق والعلم والمعرفة الذي يشكل الجزء الكبير في مسيرة الحياة الحرة لبناء المستقبل وتحويله إلى واقع مستقر وأمن نعيشه جميعاً كل يوم.
لأننا عندما نفكر بأبسط حقوق المرأة التي لا يمكن استجداؤها من أحد، فكلمة حق نقف بها تستدعي الأمان… “لأن الأمان و السلام هو الهدف الأسمى للمرأة السورية “وتستدعي أن نرى الصواب في داخلنا وحرية الاختيار والتعبير عن الحق ، وتحتاج انطلاقة حقيقة لأجل الحق ، لأن العقلية المتحجرة اجتماعياً تلعب دور استبدادي منقطع النظير ، مبنية على تقاليد متناسبة مع أزمنة سابقة وانتهت ، والارتكاز عليها الآن كمن يقف على أرض رمالٍ متحركة تزداد فيها غرقاً بعد غرق ، يطرح ما سبق أن نقف على أرضٍ بيضاء مستندة إلى نفوسٍ نيّرة أخذت على عاتقها المساعدة ضمن الإمكان لكل إمرأة وقعت في مشكلة لا تجد فيها من أحدٍ دعماً .
ولست أكتب هنا هذه الكلمات أو السطور ، لأزيد حجم التشاؤم من المستقبل الذي ينتظرنا، لكنني أكتب بدافع الرغبة في تجاوز كل العقبات التي يمكن أن تنتظرنا، أو هي قائمة بالفعل، وعلينا أن ندرك عبر قراءة بسيطة للتاريخ الأممي، أنّ جميع الحضارات التي بنيت بعد الحروب، كان العلم والتوعية أساس بنائها، وليس العادات أو الموروث الاجتماعي البائد، وأنّ نهضة أيّ أمة من الأمم تكون بتثقيف وتعليم بناتها و أبنائها الذين يمثلون أسس حضارتها القادمة، ومن يقرأ في التاريخ جيداً سيدرك أنّ المرأة كانت ولا تزال أهم الركائز التي ساعدت ودعمت في تطور تلك الحضارات وازدهارها.
بقلم “غالية الكجوان” ناطقة مجلس المرأة العام لحزب سوريا المستقبل