ذات صلة

سربست نبي يكتب: الكوردي الجيد والكساد الأخلاقي للمعارضة!

سبق لي وأن أشرت إلى أن الثورة السورية فشلت في الانتصار أخلاقياً على الجلاد، قبل أن تسقط سياسياً وعملياً أمام جيش نظامه. فما أحدثته من انقسام وما أثارته من كرنفالات الكراهية بين المكونات السورية لم يسبق للسوريين أن تعرفوا عليه في تاريخهم القريب والبعيد. إذ خلّفت وراءها صدوعاً وانهيارات أخلاقية، وعلى جميع المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية، يستحيل علينا تجاوزها في زمن قصير. وربما تطبع بطابعها التراجيدي الخاص الهوية السورية وتترك فيها ندوباً وجراحاً مفتوحة لأمد طويل.
إن كلّ ثورة تحتاج إلى اتساق أخلاقي معين في المبادئ، وإن انطوت على اختلافات سياسية جليّة. فالتاريخ لا يعرف ثورات محض أخلاقية، وحتى ثورات الأنبياء والرسل كانت لها هفوات أخلاقية جلية. ولم يسبق للتاريخ أن شهد ثورة للملائكة أو القديسين، هذه موجودة في الأساطير فقط. ولكن الثورة إن كانت خالية من القيم أو لا تملك ضوابط أخلاقية أو سياسية، ولا تساهم في إنتاج قيم إنسانية جديدة، وقيم حياة جديدة، وبالنتيجة بشراً من طراز جديد تستحيل إلى كارثة، وتعيد إنتاج أشدّ أشكال البؤس تخلفاً. والتاريخ يعلمنا أن جميع قوى التغيير والمعارضات في العالم التي قامت بالثورات وأحدثت تحولاً عظيماً في أوطانها وأوضاعها، إنما أنتجت، في الوقت ذاته، قيماً وطنية سامية أرقى وأكثر تقدماً، ورسخوا القيم الإيجابية القديمة، قيم الانتماء والتضامن الوطني. والحال حتى الآن، أن المعارضة السورية عجزت عن بلورة قيم وطنية جديدة تعكس انتماءاً وطنياً أسمى، على العكس من ذلك، كلما مضى الوقت أكثر تعرّت أكثر من القيم الوطنية والأخلاقية، وغاصت وتمترست وراء قيم أيديولوجية في غاية التخلّف والسلبية ورهنت إرادتها لأجندة غير وطنية.
لعل أبرز مثال على ذلك، ما تعرّض له الشعب الكوردي من إهانات بالجملة واحتقار وازدراء ليس فقط من قبل عوام المرتزقة التابعين للإئتلاف المعارض لدى اجتياحهم المناطق الكوردية، وأفرغوا زخّات شتائمهم البذيئة ونابيّتهم، التي تنمّ عن كراهية وانحطاط تربوي في المنشأ بحق شعب بكامله. كذلك الأمر مع نخب ورموز( المعمعة) السورية، الذين لم يتوانوا بكل حقد وصفاقة في الإفصاح عن تركة الوضاعة والسوقية لديهم، التي تعكس القاع الأخلاقي العميق لثقافتهم وتربيتهم الأيديولوجية. فمن قائل بأن أصول الكورد غجر إلى أجير النظام سابقاً القائل بأنهم( بويجية) وماسحي أحذية إلى المهرّج الثورچي، الذي نفى عنهم صفة الآدمية… الخ دونكم بأحكام التكفير التي أطلقها شيوخ التكفير التابعين لعصابات الإخوان، بحق الكورد وغيرهم، التي بررت قتلهم وسبيّ نسائهم والسطو على أملاكهم ونهبها.
إن ما تعرّض له الكورد على يد أولئك( الثورچية) في زمن( الثورة) السورية من ازدراء وإسقاط أخلاقي لم يسبق أن تعرضوا له حتى في ظلّ نظامي صدام حسين أو الأسد، اللذين رغم قسوتهما وفاشيتهما القوموية لم يبلغا هذا المبلغ من الضعة والسوقية. إذ رغم المجاز والقتل كان التوقير الأخلاقي للضحية لدى الطاغيتين ربما أفضل من ابتذال ودونية ثورجية المعمعة السورية. وهذا مايعزز لديّ القناعة بأن هؤلاء الذين لم يبلغوا ذاك الحدّ من السطوة والقوة، التي كانت لدى النظامين البعثيين، لو قيّض لهم النصر وتمكنّوا لأقدموا على ما هو أسوأ وأكثر توحشاً وإجراماً منهما.
هذه المفارقة تفضي بنا إلى نتيجة واحدة على الأقل، هي أن هذه( الثورة) تقدمت منذ البداية نحو إثبات ذاتها سياسياً دون أيّ رأسمال أخلاقي رمزي مشترك، أو دون أن تتراكم لديها ميراث أخلاقي حيث وضعت نصب أعينها غاية وحيدة ورئيسة هي الاستيلاء على السلطة وإسقاط النظام القائم أيّاً كانت الوسائل المستخدمة. ويبدو لنا في نهاية المطاف أن هذه( الثورة)، التي تحوّلت إلى كرنفال للدم والخراب، لم تعد قادرة على ضمان حقوق الضحايا والمقهورين المهدورة في زمن الاستبداد، ولكنها تبدو معنية أكثر بالحفاظ على امتيازات أعوان الجلاد وعملائه الذين أمعنوا في الاستزلام له طوال تلك الفترة وانشقوا عنه في برهة غرق سفينة الاستبداد، ليصبحوا هم الأوصياء على دماء الضحايا الآن وسادة العربدة الثورية.
هلّ يمكن تفسير هذا الأمر بمجرد القول إنه سلوك فردي لا أخلاقي؟ بالتأكيد لا، فما يقبع خلف هذه الآراء والمواقف هو نمط متكامل من الخطاب السياسي والأيديولوجي وجملة من الممارسات الخطابية ومنظوم قيم ومعايير باتت راسخة، وغدت عادات أصيلة في تفكير المعارض السوري وسلوكه، المحسوب على التيارات الإخوانية والعروبية، وهي في جملتها ما يمكن أن نطلق عليها مفهوم( العقل الأخلاقي) للمعارضة السورية. إنه خطاب أزمة يعكس هزيمة العقل السياسي الحامل له منطقياً وواقعياً، فهو يبحث عن ضحية أخرى يبرر بها هزيمته، وينتقم منها كي يستعيض بها شجاعته المفقودة.
الثورچي اليوم، الذي تربى في كنف النظام، ورضع من ثدي أيدولوجيته وقيمه السياسية، وعاش تحت فضاء من الشعارات والرموز السياسية والتربوية، وكان متطبعاً ولايزال بهذا المجال، ليس من السهل عليه التحرر منه بالسهولة ذاتها التي قفز بها من قارب النظام المنخور بين عشية وضحاها. وبالنتيجة لا نكون إزاء إنسان متحرر من سلطة الجلاد وسلوكه، وإنما مجرد ضحية مشوّهة لا يزال يثوي داخلها طاغية قزم وتافه، يحفزّها الغلّ والكراهية والرغبة في الانتقام من كل ما يقع في طريق تطلعاتها إلى ممارسة دور الجلاد.
يبرر هذا الاستنتاج إن جميع من أذاق الآخرين صنوف القهر والعذاب، من اعتقل الناس، المخبر الذي كان يلاحق أنفاس البشر ويذيل تقاريره الكيدية عن حركاتهم، الجلاد الذي كان يفترس ضحاياه في الزنازين، المحقق، اللص وناهب المدن، المرتزق الذي كان يخرج في كل أوان ليهتف باسم القائد الخالد ويرغم الناس على الهتاف معه، الفاشي والعنصري الذي كان يطعن في هوية المختلفين معه وانتمائهم، المتعصب والمهووس بإيذاء الآخرين. كلّ هؤلاء أصبحوا في صفّ الثورة لما شعروا أن قارب النظام المنخور بات على وشك الغرق. وبعضهم أصبح ناطقاً باسمها ورمزاً لها. من عارض النظام وعارض هؤلاء ولوحق وفرّ من البلد ثائراً لحقه هؤلاء واغتصبوا ثورته، إذاً ما مبرر بقائه ضمن هذه الثورة، إذا كانت كتلة الشرّ أصبحت كلها في هذه الضفة، ألا نحتاج إلى ثورة أخرى على هذه الثورة كي تتطهر من جميع الشرور التي لحقت بها حتى أصبحت ضد مبدئها بالذات؟
فضلاً عما سبق فإن الخطاب السياسي للجماعات الإسلامية والقوموية المعارضة، قدمت على الدوام لمثل هذا الثورچي موارد نظرية يبرر بها رؤاه ومواقفه ليس من الكورد فحسب، وإنما أيضاً من جميع المكونات الهوية السورية، مثل الطوائف، العلوية، الدروز إلخ. فموقف الازدراء والاستعلاء يظل مطبوعاً وطاغياً على نظرتهم وموقفهم اتجاه الجميع. إلا أنه يتخذ في الحالة الكوردية طابعاً أشد حدّة وتطرفاً، لأن الكورد يشكلون تحديّاً سياسياً وربما وجودياً في وعيهم.
هناك فجور سياسي وأخلاقي صارخ سائد في سلوك أطراف عديدة وأفرادها. انتحال مفضوح ومريب لدماء ضحايا الشعب السوري. بعضهم يطالب باحترام وتقديس بعض القضايا الوطنية وهو ذاته من يخونها سرّاً وعلانية. بعضهم يعلن صراحة تمثيله للشعب السوري، ويؤكدون على ذلك مراراً وتكراراً ويحث الشارع والآخرين على مبايعته وفي الوقت ذاته هو نفسه لا يحترم هذا الشعب وقيمه وتنوّعه، ولا يحترم الثقة التي منحه إياها الشارع. عدد من رموز الثقافة السورية والسياسيين المعارضين، ممن كنّا نعتقد فيهم السمو، كشفوا طوال عقد من الزمن عن ضيق أفق وتعصب لا يليق إلا بمتطرف يهودي مهووس بيوم السبت. فضحتهم انفعالاتهم الحقيقية ومشاعرهم المقنعة بعبارات العقلانية والتسامح الفضفاضة. روائح الكراهية الطائفية والقوموية التي لا تطاق أخذت تفوح بقوة من كلماتهم.
هذه الرؤوس الساخنة في المعارضة السورية خدمت النظام أكثر من أزلامه ومرتزقته، الرؤوس الساخنة التي تجاهلت حقائق الوضع السوري، وتعاطت معها بنفس منطق النظام. الرؤوس الساخنة، التي أرادت أن تقدّ مستقبل سوريا طبقاً لأهوائها وأوهامها الأيديولوجية، الرؤوس الساخنة، التي لم تدرك بعد أن البلاد باتت غارقة في هاوية الحرب الأهلية وهي لاتزال تتبجح وتتغطرس وتعاند. لأنها ببساطة شديدة جرّدت كل دعوى أو مطلب سياسي من أبعاده الأخلاقية. تأكيد الذات وثنياً، الوعي المشوّه بالكرامة الفردية والجماعية، ردّات الفعل المنحرفة، ازدواجية المعايير الأخلاقية وغياب الاتساق في الوجدان الجمعي، النخوة المجانية، المكابرة الفارغة ومعاندة التقدم، الضجيج الاستعراضي والزعيق الأرعن الناجمين عن غيرة زائفة، الهستيريا القطيعية المتطرفة المصحوبة بالرغبة في الانتقام، الذاكرة الانتقائية، النزعة الإيمانية المنافقة والسطحية، كلها مظاهر لأزمة العقل الأخلاقي وتناقضه، حيث تجدونها جليّة وصارخة في تظاهرات السلوك السياسي للمعارضة السورية، بخاصة تلك القابعة في استنبول وتدار من هناك بمقود المخابرات التركية.
بالطبع لا يمكن تفسير هذا الفجور الأخلاقي والصفاقة لدى هؤلاء وغيرهم، بل والسياسي كذلك، بموجب هذا الأمر فحسب. ذلك أن النخب السياسية والثقافية أيضاً تهاونت منذ البداية مع مثل هذه المواقف. بل إن الكثيرين منهم تهاونوا مع الأمر وعدوّه أمراً عارضاَ. مثلما أن الكثيرين ممن أسميتهم في وقت مبكر بـ( بالأكراد الجيدين) و اكتسبوا أخيراً صفة الـ( أوادم) قبلوا على أنفسهم هذا الخزي وصفقوا لمثل هذه العربدة بحق شعبهم بدونيّة ودون خجل. فالمهم بالنسبة إليهم أن يتدرجوا مع هؤلاء وينخرطوا في الفضاء السياسي والثقافي السوري ذاته. إن استجداء رضى المعارض السوري، كان أقصى ما يتطلع إليه أشباه السياسة والثقافة الكورديتين، شرط أن يتحلل من كورديته( السيئة) أو( الرديئة) التي كانت على الدوام تثير حفيظة هذا( المثقف)، فالكوردي الجيد هو وحده الكوردي العقلاني المعتدل في هذه الأوقات، بنظر المعارضة العروبية والإسلامية، إنه الكوردي المطيع، غير مشاكس، غير نزق، الساذج، المرن إلى أقصى حدّ. أي المساوم والناعم، الأملس والظريف في نظر المالح والبيانوني والشقفة وجميع البطانة الإسلامانية والقوميين الجدد ومعظم السوقيين من جوقة البذاءات والشتائم. إنه الكوردي المداهن، المنافق والمتملق، الذي لا يكفّ عن التهليل والإعجاب بتفاهات المثقف( السوركي)، الوضيع والمتدني أمام ترفع وغطرسة الأخير، يعترف بسيادته ورعايته له، ويقبل لنفسه بدور التابع الدوني، ويتوائم باستمرار مع مزاعمه بالتفوق والحكمة والوصاية والسيادة. ويبدي استعداده على التعايش مع جميع مزاعمه وأوهامه الأيديولوجية عن الأمة الخالدة والهوية والمصير المشترك، وأن تستجيب مع منطقه السياسي وتتسق مع توجهاته العنصرية.
الكوردي الجيد يراد به في هذه الحالة الكوردي الوديع واللطيف، وحتى الرومانسي الذي يتغنى بأمجاد العروبة، ويحلم بوطنية مصاغة على هوى الآخرين. وبالمقابل قد يضطر أحياناً إلى أن يحتقر ذاته ويتخلص من كل ما يمتّ إلى هويته وانتمائه بصلة كي يتوافق وينسجم مع غرور وغطرسة سيده المعارض. عليه الاستعداد أن يكفّر بكل انتماء له أو حق، وحتى أن يمحى ذاته ويتماه في عباءة سيده. إنه الكوردي المتحرر من حالة الاحتقان الأيديولوجي الناشئ عن الشعور بالقهر، المتطهر من وباء كراهية الأوغاد العنصريين، الذين ينكرون حق البشر في الكرامة والمساواة. إنه الكوردي المطلوب الآن بإلحاح شديد في جميع المناسبات والأوقات. إنه مسخ ( العروبي الجيد) في نظر الأمريكيين أو الأوروبيين ونسخة كاريكاتيرية عنه. وخلاف ذلك هو الكوردي العنصري المقيت، الكوردي السيء والقبيح بنظرهم، الذي يفتقر إلى الحس الإنساني بالكرامة.
الكوردي الجيّد، هو الذي يكفّر بانتمائه الكوردي لتأكيد هويّة لا معنى لها ولا مبرر إلا تحت رايات البعثيين الجدد أو أشقائهم من ورثة ثقافة التكفير الصدئة. وبأخصر القول، الكوردي الجيد، المطلوب بشدة، والمرغوب فيه هذه الأيام، هو العديم الكرامة، الفاقد للجرأة والشجاعة، المعتاد المذلة و الهوان، العاجز عن أن يجد نفسه إلا عبداً و تابعاً لجلاده. وفي المحصلة بدا هذا الـ( الكوردي الجيد)حتى في نظر الثورچي، مثاله الأبهى، مجرد مهرج ( آدمي من الأوادم)سياسي أو ثقافي، فاقد للهيبة والجدارة.
إن عملية تسفيه الشعب الكوردي وقضيته كانت مقصودة، خدم خلالها العديد من الأفراد والأحزاب الكوردية أجندة المعارضة القوموية/ الإسلاموية، ولم تساهم في الحفاظ على وقار وهيبة شعبهم أو قضيتهم حتى صرنا نستجدي آدميتنا من( مهرج) تافه، ممثل فاشل، أو لص يعتقد أنه قادر علي رفع الكرة الأرضية برأس اصبعه إن شتم الكورد وأمعن في إهانتهم والتقليل من آدميتهم.

سربست نبي، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة كويه- كوردستان العراق