عبد الوهاب بدرخان يكتب: ما بعد سليماني.. الأسد والحشد وحزب الله!

990

بنت إيران نفوذها الإقليمي على دور قاسم سليماني وعلاقته مع “الوكلاء”. بعد مقتله يشعر هؤلاء كما لوأنهم أصبحوا أيتاماً مستضعفين.

لماذا اختار فلاديمير بوتين هذا الإخراج لزيارته لدمشق، وما الرسائل التي أراد اطلاقها، ولمن؟ لماذا فضّلت إيران هذا السيناريو لردّها “الانتقامي”، وما ارتدادات اغتيال قاسم سليماني على نظام طهران؟ لماذا تجرّأت الرئاسات الثلاث العراقية على ادانة الخرق الإيراني لسيادة العراق، وما الانعكاسات الداخلية على النظام؟ لماذا ارتبك تأليف الحكومة في لبنان على رغم مخاطر الانهيار المالي والاقتصادي؟ هل تستمر الحراكات الشعبية وما المطلوب لتطوير أدائها وتمكينها من تحقيق أهدافها؟
هنا قراءة أولية سريعة لأسئلة كثيرة فرضها الاغتيال بما عناه من “ردع” أميركي، والتصعيد الخطير الذي تلاه بما أظهره من تهيّب إيران إزاء “معركة التحرير الكبرى” التي سنحت لها أخيراً لكن موازين القوة وتقديرات الموقف فرضت على “إيران الثورة” التراجع أمام “إيران الدولة”، وإن كان التناقض بينهما طفيفاً أو وهمياً.
لم تتأخّر مؤشرات التغيير في ايران نفسها، بدءاً بالهجوم الصاروخي المصمم وفقاً للمعايير التي حدّدها الجانب الأميركي، مروراً بتصدّر الثنائي روحاني – ظريف لإنهاء التصعيد، وصولاً الى الاعتراف بحقيقة التفجير “غير المتعمّد” للطائرة الأوكرانية وما أبداه من هلع وخلل وعدم تنسيق. هذه مجرّد بداية لمراجعة إيرانية قد تشمل أيضاً الاستراتيجيات، بما فيها تلك المتعلّقة بـ “تصدير الثورة” ونشر النفوذ والهيمنة. هل تتجه إيران الى “تغيير سلوكها”؟ أصبحت مدركة الآن أن تخلّصها من العقوبات لا يمكن أن يتم بالتشدّد الأيديولوجي، ولا بالسعي الى هدف (إخراج أميركا من المنطقة) يصعب تحقيقه حتى في العراق، ولا أخيراً بالمراهنة على قدراتها لإحراج دونالد ترامب وإخراجه من البيت الأبيض… ما مدى جدّية التغيير في إيران وكيف سيتبلور؟ هذا ما تجدر مراقبته في مقاربتها لشروط المفاوضات وتعديل قيود الاتفاق النووي؟
ما تحاول طهران اخفاءه من تداعيات الاغتيال والتصعيد كشفه الرئيس الروسي حين هبطت طائرته في دمشق وراح يجول في بعض أحيائها ومعالمها التاريخية قبل أن يستدعي رئيس النظام للقائه في مقر القيادة الروسية. كانت الزيارة سنوية تقليدية لمعايدة الجنود أما رسائلها فجاءت من وحي التطورات: إذا اشتبك ترامب وخامنئي فالرابح هو بوتين. دمشق مدينة حُسمت الهيمنة عليها للإيرانيين برغبة بشار وماهر الاسد اللذين لا يثقان بالروس، لكن بوتين شاء الإيحاء بالبدء بتغيير هذه الصورة. وما نُقل عن اللقاء يشير الى أن الجانب الروسي بدا مرتاحاً الى غياب سليماني ومتفاعلاً معه: غير مسموح للأسد باللعب في مجرى التصعيد الأميركي – الإيراني لقاء استمرار مهادنته اسرائيلياً، وغير مسموح بأي توتير في الشمال الشرقي، وغير مسموح بمواصلة الهجمات في إدلب أو مضايقة تركيا التي باتت علاقتها مع روسيا استراتيجية بامتياز… والدليل تجاوز تناقضاتهما الشديدة باتفاق في شأن ليبيا، ثم العودة الى “الهدنة” في إدلب… هل يعني ذلك تغييراً في استراتيجية البحث عن حل سياسي؟ هذا ما يفترضه الواقع لكن المنطق البوتيني في سورية لم يتسم دائماً بالواقعية.
بالعودة الى مؤشرات التغيير ايرانياً اضطرّت طهران لكبح جماح “الحشد الشعبي” في العراق، إذ حاول “الحشد” بعد خيبة أمله من محدودية انتقام طهران لسليماني أن يفصل انتقام ميليشياتها لـ “أبو مهدي المهندس”، وبالتالي مواصلة تنفيذ الخطط التي وُضعت سابقاً برعاية سليماني نفسه. أدركت الميليشيات أن سقوط “أمير الحرب” الذي رعاها منذ نشأتها يعني بدء مرحلة جديدة ترغمها على التريث. وبعد حفلة الترهيب الذي مارسه “الحشد” على البرلمان لاستصدار قرار بإنهاء وجود القوات الأجنبية – الأميركية تحديداً، أدركت الرئاسات العراقية الثلاث بدورها أن اساءات الحليف الإيراني (الذي كان دور أساسي في ترئيسها) بلغت حدّاً يمهزل مواقعها ومكانتها فتذكّرت فجأة أن لا قيمة لها إذا لم تحفظ كرامة العراق، تلك الكرامة التي لم يكلّ الشارع العراقي المكلوم من الدفاع عنها. كان رئيس الجمهورية أول من وعى مسار التغيير حتى قبل اقتراب اميركا وايران من التصادم، وتبعه رئيس البرلمان حين تحدّث صراحةً عن “شيعية” المطالبة بانسحاب الاميركيين، أما رئيس الحكومة فواصل المراوغة ملتزماً محاباة إيران و”الحشد” ناسياً أنه مستقيل. وحدها مرجعية علي السيستاني بقيت صاحبة الموقف الأكثر عقلانية وجرأة ووطنية في التعامل مع الشأنين الداخلي والخارجي، فهل تضاعف طهران الاعتماد على المرجعية في المرحلة المقبلة بعد كان سليماني يهمّشها؟
بعد يومين على التهديدات التي أطلقها الأمين العام لـ “حزب الله”، في سياق إعداد الانتقام لسليماني، وبعد النداءات الخاصة التي تلقّاها من ابنة الأخير، وجد حسن نصرالله نفسه في وضع مخزٍ. في الأصل كان وضعه مثلوماً وشبيهاً بوضع الحكم العراقي بعد انكشافهما أمام الانتفاضتين الشعبيّتين، وكانت خياراته محدودة ومكلفة، فأين سينتقم وكيف وممَّ، إذ أنه استبعد استخدام صواريخه لضرب إسرائيل، وليس متاحاً له التعرّض للاميركيين في سورية، فهل يعود الى خطف الأجانب؟ ثم أن تعليمات طهران وأمرت بالتهدئة، أي، بوضوح: إطووا صفحة سليماني؟! غداة الاغتيال ألغى “الحزب” كل الاتصالات في شأن تأليف الحكومة – “حكومته” – وانتدب نبيه برّي للمخاتلة وكسب الوقت. اهتزّ نظامه ومنعته المكابرة من الاعتراف بذلك، وبات الواقع أقوى من أن يطوّعه: فلا الحكومة التي أرادها استقامت بين يديه، أما الحكومة التي يريد أن يواصل الحُكم من خلالها فلا تقوى على مواجهة الصعوبات ولا تناسبه… حتى خيار تغيير النظام اللبناني لم يعد ورقة رابحة في جعبته، فأي تغيير حقيقي في لبنان ينبغي أن يعيده الى حجم طبيعي.
على رغم ولادة توجّهات جديدة في طهران فإنها لم تبلور خيارات مختلفة في مواجهة انتفاضتي العراق ولبنان، ففي الأول لا يزال عنف الميليشيات هو الغالب، وفي الثاني يُستخدم اشتداد الأزمة المالية وتفاقم الأزمة الاجتماعية وتزايد الإجراءات القمعية لإضعاف الحراك الشعبي. لذلك يعتقد مصدر سوري رؤيوي أن أزمات البلدان الثلاثة، سورية والعراق ولبنان، باتت تحتاج الى زخم جديد لتحريكها وفقاً لتخطيط ومسار مختلفين. إذ يختصر المرحلة المقبلة بأن سليماني كان الأداة الرئيسية للحلف الاستراتيجي بين إيران والبلدان الثلاثة باعتبارها بؤر مواجهة مع اميركا. تبعاً لذلك يشكّل قتل سليماني فرصة لتحريك ملفات البلدان الثلاثة وإحداث التغيير فيها:
– في العراق ولبنان ستزداد الصعوبات، ويفترض أن تساعد الولايات المتحدة في خلط الأوراق. كيف؟ استنتجت أن ايران استطاعت السيطرة على نحو 90 في المئة من أصحاب القرار وبقي نحو 10 في المئة ممن يأخذون في الاعتبار رأي الشعب، لكن الانتفاضة الشعبية أظهرت وجود 40 في المئة يوالون ايران و60 في المئة يرفضون هيمنتها، وهؤلاء ينبغي تعزيزهم لتقوية الـ 10 في المئة من أصحاب القرار.
أما في لبنان فيبدو أن العقوبات الأميركية استطاعت “حشر” تأثير نصرالله وحزبه في ادارتهما للحكم، لكن واشنطن أبلغت أن لديها علماً بأن حليفهما جبران باسيل فتح خطاً مباشراً مع طهران ظنّاً منه أنه بذلك يستبق “الحزب” اذا أراد بيعه. لذلك ضغطت واشنطن على “مجموعة الدعم الدولي” لتتبنّى معايير دقيقة يفترض أن تمنع “الحزب” وباسيل من التلاعب بتركيبة الحكومة التي يمكن المجتمع الدولي التعامل معها لمعالجة الأزمة الاقتصادية.
– مقتل سليماني يضعف جناح “بشار – ماهر” والفرقة الرابعة التي يعتبرها الروس “إيرانية”، وأي تغيير تحديداً في العراق ينعكس على وضع النظام السوري، علماً بأنه تأثر لتوّه بمجريات زيارة بوتين، إذ لم يعد بإمكان الأسد أن يتنكّر بوجه إيراني ليفاوض الروس ولا بوجه روسي ليفاوض الإيرانيين. هناك من يقول أن بوتين تعمّد “إرعاب” الأسد فلم يعرف مسبقاً بزيارته ولم يراعِ أي بروتوكول، كما أن المضمون السياسي للمحادثات لم يكن مريحاً ولا مطمئِناً.

عن صفحته في الفيس بوك